كان من أبرز تداعيات الربيع العربي صعود نجم الحركات
الإسلامية السياسية، التي أعلنت عن قبولها التام بالخيار الديمقراطي، والتزامها الثابت بمنهجية العمل الإصلاحي "السلمي"، لكن تلك التجارب تم إجهاض تجربتها من قبل قوى وجهات عديدة، نتج عنها تراجع حضور تلك الحركات تحت وقع حملات ممنهجة استهدفت إخراجها من الحياة العامة، أو إضعاف حضورها على الأقل.
في النموذج
المصري تم التعاطي مع جماعة الإخوان المسلمين كبرى تلك الحركات، بحل الجماعة ومحاصرتها وشيطنتها واعتبارها جماعة
إرهابية، واعتقال المئات من قياداتها في مقدمتهم المرشد العام، والآلاف من أعضائها وكوادرها، وفي النموذج التونسي مورست ضغوط كبيرة عليها، اضطرتها للتنازل عن الحكم درءا لاحتمال تكرار السيناريو المصري في تونس.
بعد كل ما تعرضت له جماعة الإخوان المسلمين في مصر من اضطهاد وملاحقة واعتقالات واسعة، فإنها ما زالت تصر على مواصلة منهجها الدعوي السلمي، واضعة نصب عينيها مقولة مرشدها العام "سلميتنا أقوى من الرصاص"، لكن حركات ومجموعات إسلامية أخرى اضطرت لمفارقة السلمية والانخراط في العمل العسكري القتالي كما في النموذجين الليبي والسوري.
يبدو في ظاهر الأمر أن الخيار العسكري، قادر على تحقيق ما لم يحققه خيار "السلمية" في مواجهة أنظمة قمعية متوحشة، لا تؤمن بالديمقراطية ولا تحترم خيارات الشعوب أبدا، فليس ثمة سبيل للتعامل معها إلا بإجبارها على ترك السلطة، وقد تعزز هذا الفهم بعد أحداث العراق الأخيرة، حينما هب ثوار العشائر وبقية المجاميع المسلحة لمواجهة جيش الحكومة العراقية الحالية، وما تمخض عن ثورتهم من إسقاط الموصل ومدن عراقية أخرى بحسب مراقبين ومهتمين.
أمام تلك الحيثيات والوقائع المتتابعة، هل تراجع خيار العمل السلمي وخبت فاعلية الحركات الإسلامية الملتزمة به، ليتصدر المشهد خيار العمل "الجهادي" خاصة بعد ما أحرزته حركات السلفية الجهادية من حضور ظاهر؟ وما مدى قدرة الحركات الجهادية على القيام بالمهمة إلى نهاياتها؟ وهل تحمل مشروعا قادرا على بناء الدول وتعمير البلاد في حال تمكنها من إسقاط الأنظمة المستهدفة؟
انتكاسة التحول الديمقراطي في العالم العربي محبطة
ما مدى تأثير وأد الخيار الديمقراطي وإجهاض تجربة الإسلاميين في السلطة على قناعات أبناء الحركات الإسلامية وعامة المسلمين بجدوى خيار العمل "السلمي"؟ يرى الدكتور عزام التميمي مدير قناة الحوار في لندن المتخصص في الفكر الإسلامي أن "انتكاسة التحول الديمقراطي السلمي في العالم العربي خلقت حالة من الإحباط لدى قطاعات شبابية اقتنع بعضهم برأي من يُنظِّر لفكرة أن السلمية لا تأتي بنتيجة سوى ما رأيناه في مصر".
ولفت التميمي في حديثه لـ"عربي 21" إلى أن انهيار الجيش العراقي النظامي مؤخرا أمام هجمات ثوار العشائر والمجاميع المسلحة الأخرى عزز تلك القناعة لدى البعض، لكنه استدرك قائلا: "الحقيقة هي أن الحركات التي تعتمد العنف وسيلة للتغيير ليست أحسن حظا من تلك التي تصر على السلمية في منهجها" مستشهدا بما يجري في سوريا من كوارث والتي جاءت نتيجة عسكرة الثورة السورية التي بدأت سلمية وكان أهلها يصرون على إبقائها كذلك.
وأشار مدير قناة الحوار إلى أن التعاطف الجماهيري لا يمكن التعويل عليه، لأن الجماهير تتأثر آنيا بما يجري حولها على المدى القصير والقصير جدا، دونما كبير اهتمام بالتداعيات على المدى المتوسط والبعيد، وفي تقييمه لمنهجية الحركات التي لا ترى سبيلا للتغيير إلا بالعمل العسكري ذهب إلى القول بأن "أخطر ما في منهج تلك الحركات التي تعتمد على العنف في تغيير واقع مجتمعاتها أنها تهدم وتنشر الفوضى من حيث تدري أو لا تدري، من غير أن تمتلك مشروعا للبناء" بحسب التميمي.
اختلاف الحركات الإسلامية تكاملي
أمام الحضور القوي للجماعات والمجموعات التي تتبنى العمل القتالي العسكري على الساحتين السورية والعراقية، هل تراجعت جماهيرية الحركات الإسلامية السلمية لصالح تلك الحركات "الجهادية"؟ يرى المتحدث باسم حزب التحرير الإسلامي المحظور في الأردن ممدوح قطيشات أن الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها السلمية والعسكرية ليست في صراع، وأن طبيعة اختلافاتها تقع في دائرة التكامل وليس التنافر.
يرسم قطيشات مسارا مختلفا لتراجع الحركات الإسلامية وحضورها، فمن وجهة نظره أن محاولات تمييع الإسلام تراجعت لصالح الإسلام الحقيقي المتمثل في العمل لإقامة دولة الخلافة التي تطبق الإسلام كاملا مؤكدا أن الأمة تقف خلف كل من يسعى لتخليصها من واقعها المرير، ويعمل لإقامة الدولة الإسلامية سواء أكانت حركات سياسية أو عسكرية.
وفي جوابه عن سؤال "عربي 21" حول عدم قدرة الحركات الإسلامية السياسية على إنجاز مشاريعها التي طرحتها طوال العقود السابقة، وتفوق الحركات الجهادية عليها، أوضح قطيشات أن الحركات الإسلامية السياسي منها والمسلح تستقل قاربا واحدا، وكلها تسعى لتحقيق مشروع خدمة الإسلام وإقامته في الأرض، والفضل يعود في الأساس للأطروحات السياسية التي أسست لكل أشكال العمل فيما بعد.
وحول تقدم جماعات السلفية الجهادية لطرح نفسها كقيادة شرعية للأمة في صراعها مع أعدائها، أكد قطيشات أن المجال مفتوح لكل من يريد العمل، وليس من حق أحد أن يحتكر الساحة، فكل من يسعى لتطبيق الإسلام تطبيقا صحيحا دون انحراف وتحريف، سواء أكانت حركات سياسية أو مسلحة، فساحات العمل الإسلامي تسعه وترحب به.
هل تمتلك الحركات الجهادية مشروعا متكاملا؟
من جانبه وبنظرة تحليلية ناقدة رأى الخبير بشؤون الجماعات الإسلامية، القريب من التيارات الجهادية نعيم التلاوي أن الأمور في ظاهرها تشير إلى تراجع الحركات الإسلامية السياسية التي تنتهج العمل السلمي لصالح الحركات الجهادية، عازيا ذلك إلى عدة أسباب يقف على رأسها، عدم قدرة تلك الحركات السياسية السلمية على إنجاز مشروعها المطروح منذ ثمانين سنة، وحتى حينما وصل بعضها إلى الحكم والسلطة لم تقدم مشروعا مقنعا، وكانت نتيجة المشاركة سلبية وليست إيجابية.
ومع إشادته بجهود تلك الحركات السياسية الإسلامية السلمية في ميادين الفكر والدعوة وتحصين الأمة ضد مشاريع التغريب، اعتبر التلاوي أن حصاد العقود السابقة لتلك الحركات يشير إلى أنها لم تستطع إقناع قطاعات واسعة من الأمة وخصوصا الشباب بقدرتها على تحقيق ما تعد به في مشروعها الأساسي، وتتطلع للوصول إليه، وثبت أنها لا تمتلك خطة واعية ولا فهما دقيقا للواقع، على حد قوله.
لكن هل الحركات الجهادية تمتلك مشروعا متكاملا ضمن خطة مدروسة؟ قال التلاوي لـ "عربي 21" بكل صراحة لا أراها تمتلك ذلك، موضحا أن ما أعطاها ذلك الزخم هو فشل مشاريع الحركات الإسلامية الدعوية والسياسية من جهة، واندفاع الشباب وحماسهم واستعدادهم للتضحية العالية من جهة أخرى، إضافة لما توفر لهم من إمكانات مادية هائلة خصوصا في الساحتين السورية والعراقية.
بحسب التلاوي فإن كثيرا من الحركات الجهادية قائمة على الاندفاع والارتجال والحماسة، وينقصها خبراء الاستراتيجيات والفكر والرؤى، القادرين على فهم الواقع فهما سليما، ومن ثم وضع الخطط الملائمة للتعامل معه ضمن خطط مرحلية وطويلة الأمد، لكن أكثر ما ينقصهم التربية وتهذيب الأخلاق وحسن التعامل مع إخوانهم الإسلاميين المخالفين له، وشرائح الأمة المختلفة على حد قول التلاوي، محذرا من احتمالية تكرار سيناريو فشل المجاهدين الأفغان في سوريا والعراق.