كتاب عربي 21

عسكرة الدولة

1300x600
للحضارة – أي حضارة – سلبياتها، بل وأمراضها.. من هذه الأمراض "الترف والرفاهية" اللذان يغرقان الناس في الاستهلاك، ذلك الإستهلاك الذي يزيد من "الترف والرفاهية" حتى يفقد الناس الجدية والبأس والخشونة والقدرة على مواجهة الصعاب واحتمال ما يكرهون!

وعندما ابتعدت رفاهية الحضارة العربية الإسلامية وترفها بالعرب عن خشونة الجند وبأس المقاتلين، كان عزوفهم عن حياة الجندية وعيش المقاتلين، فبعدت الشقة بينهم وبين آبائهم الفاتحين المقاتلين!..

وانضم إلى ذلك المرض نزاعات الطوائف على السلطة والنفوذ في الدولة، الأمر الذي دفع الخلافة العباسية إلى ارتكاب ذلك "الخطأ - القاتل" الذي اقترفه الخليفة العباسي المعتصم (218 – 227 هـ ، 833 – 842 م) باعتماده في تكوين الجيش والجند على المماليك الأتراك المجلوبين!.

وفي البدء كان هؤلاء المماليك فرقة في الجيش، ثم زاد عددهم حتى أصبحوا كل الجيش تقريبا، وغدو مؤسسة عسكرية لها ثقل كبير، وهي في ذات الوقت غريبة - ثقافة وحضارة - عن روح الحضارة العربية التي يمنحها الناس الحب والولاء.

ولقد عبر عن ذلك التطور في نمو هذه المؤسسة العسكرية المملوكية وتعاظم نفوذها ما حدث للعلاقة بين "بغداد" ومدينة سامراء، فلقد بدأت "سامراء" – أو سر من رأى – في صورة معسكر للجند المماليك، بناها لهم الخليفة، ونقلهم إليهم، منعا لتجاوزاتهم التي أضجرت أهل بغداد، لكن سرعان ما نمت "سامراء" بنمو الجند المماليك، حتى لقد أصبحت مدينة كبرى، ثم ما لبثت أن أصبحت هي العاصمة للدولة منذ سنة (221 هـ ، 836م)، وغدت بغداد تابعة لها لزمن غير يسير!.

وكان ذلك التعبير الصادق عن تحول المماليك من جند للخلافة إلى سادة لها متسلطين عليها، يولون ويعزلون ويسجنون ويقتلون من الخلفاء ما يشاؤون!.

ولقد كان الخليفة العباسي المتوكل (232 – 247هـ، 847 – 861م) هو أول من استجاب لضرورات هذا الانقلاب الذي أحدثه العسكر المماليك في واقع الدولة والمجتمع.. وكان – أيضا – أول ضحايا سيطرة هؤلاء الأتراك المماليك!.

وفي ظل هذه السيطرة كانت قيادة الدولة بيد رجال يحملون أسماء مثل "وصيف" و "بغا" و"كيلغ" و"ياجور" و"بايكباك" و"بكلبا" و"يارجوج" و"أصغجون" و"طاشتمر" و"كنجور" و"تكين" و"أغرتمسن" و"ابن كنداجيق" و"استاتكين" .. إلخ.. إلخ.

وأصبح الخلفاء أسرى في قبضة هذه القيادات، حتى لقد وصف الشاعر حال الخليفة المستعين بالله (248 – 252 هـ ، 862 – 866 م) وصور مكانه بين كل من "وصيف" و"بغا" فأجاد الوصف والتصوير عندما قال:

خليفة في قفص .. بين وصيف وبغا

يقول ما قالا له .. كما يقول الببغا!

وعندما قتلوا هذا الخليفة – الذي وضعوه في قفص – فزعت الناس، وعبر الشاعر البحتري (206 – 284 هـ ، 821 – 898 م) عن هذا الفزع فقال:

لله در عصابة تركية .. ردوا نوائب دهرهم بالسيف

قتلوا الخليفة أحمد بن محمد .. وكسوا جميع الناس ثوب الخوف

وطغوا فأصبح ملكنا متقسما.. وإمامنا فيه شبيه الضيف!

وعندما بلغت سيطرة العسكر المماليك إلى هذا الحد.. ولأن هؤلاء العسكر كانوا غرباء عن روح الحضارة العربية الإسلامية، فإن هذه السيطرة كانت البداية لمرحلة الجمود والتوقف ثم التراجع لهذه الحضارة العربية الإسلامية.. ولقد استمرت تلك المرحلة حتى بداية عصرنا الحديث.

وفي تشخيص الآثار الحضارية لهذه العسكرة – التي بدأت "بالدولة" ثم امتدت إلى "المجتمع" – يقول الإمام محمد عبده (1266 – 1323 هـ ، 1849 – 1905 م): "كان الإسلام دينا عربيا، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا، بعد أن كان يونانيا، حتى سيطر الترك والديلم وغيرهم ممن لم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذب الدين، وهناك استعجم الإسلام وانقلب أعجميا".

هكذا أدت عسكرة الدولة.. وبعدها عسكرة المجتمع، إلى بدء التراجع لحضارتنا العربية والإسلامية، وهو درس يحذرنا من إحلال "العضلات" محل العقول.