عرف
المصريون لأول مره خطاب "الاعتراف بالهزيمة" مع أول انتخابات ديمقراطية أجريت عام 2012، عندما اعترف المرشح الرئاسي أحمد شفيق بهزيمته في
الانتخابات الرئاسية ووجه التهنئة للرئيس السابق محمد مرسي، عبر خطاب مسجل قرأه من ورقة كتبها أو كتبت له، وبدا أثناء قراءتها "مرتبكا".
وبعد عامين من هذا الخطاب كان المصريون على موعد مع نوعية أخرى من الخطابات، هرب فيها المرشح حمدين
صباحي من "صورة المهزوم" التي كان الجميع يتوقع مشاهدتها، عبر استخدام أساليب "البلاغة السياسية".
وتعرف "البلاغة السياسية" بأنها الحيل البلاغية التي يعتمدها رجال السياسة والقانون، والقائمون على شؤون المجتمع، لتثبيت أركان عروشهم، كآليات التحايل، والتعبير غير المباشر، والكناية والتمثيل والتورية، وغيرها من الأساليب، وهو ما بدا صباحي بارعا في استخدامه.
ففي الوقت الذي كان فيه الجميع يتوقع رؤية صباحي "منكسرا"، خاصة بعد أن حصل على عدد هزيل من الأصوات (3.3%)، جاء أقل من عدد الأصوات الباطلة (4%)، اعتمد إحدى الحيل التي تعرف بأسلوب "الصدمة الكهربائية".
وبدلا من أن يقول صباحي إنه سيتوارى قليلا عن المشهد السياسي لتقييم أسباب خسارته الكبيرة، قال: "سأسعى إلى تأسيس تيار ديمقراطي".
ولم تكن الصدمة وحدها هي السبيل الذي اعتمده صباحي، فقمة البلاغة السياسية في اعتماد مفردات تنفذ إلى المشاعر والقلوب، وتقيم أجواء من الحميمية والإيجابية تجاه الآخرين.
وظهر هذا الاتجاه داخل خطاب صباحي في رسائل وجهها للشعب المصري في أكثر من موضع، سواء في بداية الخطاب أو منتصفه أو نهايته.
ففي البداية، قال: "لن نشترط على الشعب قرارًا أو اختيارًا وأقر بخسارتي في الانتخابات، وأعتقد أننا كسبنا احترام شعبنا وراضون باختيار الشعب، ومؤشرات التصويت ظهرت وأنا مؤمن أن مصر بامتياز وطن التعدد والتنوع والوحدة".
وتابع: "أقول لكل من ذهب إلى صناديق الاقتراع أيًا كان اتجاهه نحترمكم جميعًا، وأقول لكل من لم يمنحني صوته فإن صوتي معكم من أجل تحقيق الكرامة الوطنية".
وفي وسط الخطاب عاد ليوجه كلامه للشعب مره أخرى قائلا: "خسرنا أصواتكم ولكننا لا نريد أن نخسر ثقتكم والبعض يثق في صدقنا ولكنه لم يثق في قدرتنا".
واختتم الخطاب بقوله: "أقول لكل من ذهب إلى صناديق الاقتراع أيًا كان اتجاهه نحترمكم جميعًا، وأقول لكل من لم يمنحني صوته إن صوتي معكم من أجل تحقيق الكرامة الوطنية".
وخص السلطة الحالية برسالة من هذا النوع، وإن كان لم يصرح بأنه يوجهها لها بشكل مباشر، كما في حالة الشعب المصري، حيث قال: "لا مكان في قلوبنا لغل أو كراهية أو رغبة في الانتقام.. سنظل وسط الشعب نعبر عن أحلامه ومطالبه.. ولن نهرب من واجبنا لكى نقدم بديلاً يعبر عن أحلام المصريين في الحرية والعدالة الانتقالية".
ولم يخل خطاب صباحي من ذكر لمحات عن الماضي، وهي أحد الأدوات الفعالة في البلاغة السياسية، فيما يعرف بـ "صياغة الماضي"، ولا يكون الماضي وقتها مقصودا لذاته، بقدر ما يكون المقصود توجيهه لظروف الحاضر وحاجاته.
وفي الخطاب الذي ألقاه صباحي أشار إشارات بسيطة إلى ماضي القهر والاستبداد، قائلا: "خضت الانتخابات إيمانا مني بأنه عليَّ أن أحفر مجرى للديمقراطية في صخر تشكل عبر عهود طويلة من القهر والاستبداد"، وذلك في إشارة منه إلى تجربته الحالية في خوض انتخابات الرئاسة.
ويواصل صباحي اعتماد آليات البلاغة السياسية، عبر ما يعرف بـ " آلية التضفير مع النص الديني"، لإضفاء مزيد من المصداقية على خطابة.
ورغم خلفيته اليسارية التي تؤمن بضرورة فصل الدين عن السياسة، وانتقاده في أكثر من مناسبة لجماعة الإخوان المسلمين التي تقحم الدين في السياسة، إلا أنه حرص على استغلال ما يعرف بـ "الرأسمال الرمزي للدين"، والذي يعطي خطابه قدرة أكبر على السيطرة والهيمنة، فحرص على بدء خطابه بآية قرآنية، وهي قوله تعالى "وما النصر إلا من عند الله".
وحرص على إظهار مساحة من التدين في أكثر من موضع، ومنها قوله: "لقد خضنا معركة الانتخابات الرئاسية ممتلئين بالأمل في الله والشعب".
وإضافة إلى كل تلك الأدوات، كانت المفردات والاستعارات السياسية معينة لصباحي، وهو ما قد يرجعه البعض لخلفيه المهنية وعمله كصحفي قبل أن يكون سياسيا.
وفي هذا الإطار، شبه صباحي العرس الانتخابي بالمجرى المائي الذي تلوثه الشوائب، وقال: "كان يمكن أن يكون عرسًا صافيًا من الشوائب، لولا التدخل والتأثير وإرهاب المصريين".
وعملا بالقاعدة اللغوية "وبضدها تتضح الأشياء"، واصل مضيفا: "ناضلت بأمانة كي تكون انتخابات أكثر عدالة وأقل انحيازا"، فالانحياز هو عكس العدالة والأقل هو عكس الأكثر.
وفي نقده لوسائل الإعلام اختار صباحي إحدى وسائل "المحسنات البديعية"، وهي استخدام كلمتين متشابهتين في الحركة ومخارج الحروف، مما يجعل لوقع استخدامها "جرسا موسيقيا"، وظهر ذلك جليا في قوله: "وسائل الإعلام اختارت طريق (التعبئة) بدلا من طريق (التوعية)".