كتب جيمس زغبي: مثل كثير من الليبراليين «الصقور» من قبله، تجاوز رئيس الوزراء البريطاني الأسبق
توني بلير كافة الحدود، معتنقاً الجانب المظلم من فكر «المحافظين الجدد»، ويتضح ذلك جلياً عبر كلمته التي ألقاها الأسبوع الماضي في مقر تلفزيون وكالة أنباء «بلومبيرج» في لندن.
وبعد أن أمعنت في قراءة خطاب بلير الذي جاء بعنوان: «أهمية الشرق الأوسط»، أدهشني مدى التشابه بينه وبين «الدعاية التحريضية» التي استخدمها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش تمهيداً لحرب العراق.
ومثل بوش، بدأ بلير خطابه وأنهاه بنداء تحذيري، مخصص لحشد الرأي العام بالدفع إلى شرك الخوف، وسعى بلير، الذي يساوره القلق من أنه في عصر ما بعد حرب العراق بات الرأي العام في الغرب منهكاً وحذراً من أية مغامرات أخرى في الشرق الأوسط، إلى إخافة مستمعيه بغية الانضمام إلى الحرب ضد ما أمساه «أكبر تهديد للأمن العالمي» خلال القرن الجاري.. ألا وهو: «الإسلام الراديكالي المتطرف».
وبلغة أقرب إلى الهستيرية، حذر بلير من أن هذه الرؤية «المتطرفة والمسيسة» للإسلام تتزايد، وتنتشر في ربوع العالم، وفي وجه هذا التهديد نبدو عاجزين عن مواجهته بصورة فعالة. وعلى النقيض، وبلغة قاتمة متشائمة.. تلك التي يحبها إلى حد بعيد المحافظون الجدد، لخّص بلير هذا الصراع بين الخير والشر بأنه «معركة جوهرية» في عصرنا، وهي معركة «يجب أن نؤيدها».
ولكن ما الداعي إلى أن نخوض هذه المعركة ونهزم الإسلام الراديكالي في الشرق الأوسط؟ يفرد بلير أربعة أسباب للإجابة على هذا السؤال هي: النفط، وقرب المنطقة من أوروبا، وإسرائيل، ومستقبل الإسلام.
ولكن السبب الأخير هو الذي حصل على نصيب الأسد من اهتمام بلير، إذ ركز على الصراع بين أصحاب الرؤى المتسامحة للدين في العالم الإسلامي، وأولئك الذين يدافعون عن النزعات المتطرفة. وبالنسبة لبلير، يعتبر الشرق الأوسط حاضنة لهذا التطرف الخطير، ومن ثم فإن المسلمين العرب هم من أوجدوه وصدروه إلى العالم.
وذهب إلى حد الزعم أنه عندما يوجد الإسلام المتطرف في أماكن أخرى، بين الإندونيسيين أو الماليزيين أو المسلمين الأوروبيين على سبيل المثال، فإنهم ليسوا من استحدث هذه الأفكار، وإنما استوردوها من الشرق الأوسط. وكما أصبح دأب المحافظين الجدد، حاول بلير جاهداً التأكيد على أنه لا يتحدث عن الإسلام، وإنما عن «مجرياته المتطرفة فقط».
ولكن في النهاية، أصبحت إدانته كاسحة إلى درجة أنه يبدو ناقماً على العالم العربي والإسلام، والتشدد، وفي حين يشير إلى أن الصراعات في كل منطقة يجب فهم كل منها في سياقه الخاص، لا يخفي بلير حقيقة أنه يرى أن أصل كل هذه الصراعات هو الإسلام الراديكالي نفسه. ويقوده ذلك كله إلى استنتاج أن الشرق الأوسط يكتسي أهمية كبيرة للغرب، بالنظر إلى أن الاضطرابات في المنطقة والتطرف الذي تُصدّره يمثل تهديداً على النفط، وإسرائيل، وأمن أوروبا.
وبناء عليه يوصي بلير بأنه: «يجب أن ندعم وننضم إلى المعركة ضد التطرف الإسلامي»، وتبدو حاجته إلى شن هذه «الحرب الجوهرية» ملحة إلى درجة أنه يقترح المشاركة مع روسيا والصين، اللتين تواجهان -من وجهة نظره- التهديد ذاته.
ويقترح بلير أيضاً دعم حكومة الأسد من أجل هزيمة المتطرفين الذين يكتسبون أرضاً في ظل الحرب الأهلية الدائرة في تلك سوريا. وما وجدته مثيراً للدهشة بشكل خاص في الخطاب بأسره، كان جهود بلير الاستثنائية الرامية إلى النأي بنفسه عن الحربين الكارثيتين في العراق وأفغانستان، وعن طريقة الغرب الفاشلة، التي لا تركن إلى مبدأ، في عملية صنع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وبالنسبة لبلير، أخفقت جهود تحرير العراق وأفغانستان في إنتاج نظامين ديمقراطيين بسبب الإسلام المتطرف وغير المتسامح، ويشير مرة أخرى إلى أن الجاني في إخفاق عملية السلام في الشرق الأوسط هو «الإسلام الراديكالي» نفسه.
وربما يهدئ هذا الكلام السطحي وغير المنطقي من روع بلير كي ينام في الليل، ولكنه لا يشرح أسباب فشل الغرب، كما لا يوضح الأسباب الجذرية للتطرف أو كيفية التعامل معه.
وعلاوة على ذلك، يتجاهل بلير بالإشارة إلى أن الأفكار المتطرفة يتم استيرادها وتعلمها ببساطة، الأسباب الحقيقية وراء انتقال هذه الأفكار، لاسيما أن مبدأ مفهوم «تصدير الأيديولوجيات» ليس سوى ملاحظة مبتذلة يحاول بلير رفعها إلى مرتبة «استنتاج مؤكد».
ولا يفسر ذلك بأي شكل السبب في أن هذه الأيديولوجية -أو أية أيديولوجية أخرى- تكتسب أرضاً وتجد متلقين ومستمعين في أجزاء من الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا. والدرس الواضح الذي يجب أن يتعلمه بلير هو أن وجود فكرة أو الدعوة إليها من على منبر أو منصة لا يضمن بأي حال من الأحوال أنها ستجد مناصرين بالضرورة. وكي تنتشر أية فكرة أو نظام، من الضروري أن تتوافر الظروف التي تجعل المستمعين مستعدين لتلقي رسالتها.
وفي حالة التطرف العنيف الراديكالي، تكمن الأسباب الجوهرية في التفكك الاقتصادي والاجتماعي الذي ينشأ عن الحرب أو الاحتلال أو ارتفاع معدلات البطالة أو هجرة السكان القسرية أو الانحياز السيكولوجي الذي ربما ينتج عن القمع أو سياسات التمييز أو الإقصاء.
وفي ضوء هذا، يمكن أن تكون أسباب تفاقم التطرف الخاص الذي يقلق بلير متعددة مثل حربه في العراق، أو مثل صمت الغرب في وجه المعاملة الإسرائيلية الاحتلالية للفلسطينيين أو طريقة التعامل الروسي والصيني للأقليات المسلمة، أو إخفاق أوروبا في استيعاب المسلمين والتعامل معهم كمواطنين بشكل متساو في مجتمعاتهم. ونظراً لأن الإقرار بهذه الحقائق ربما يبدو مثل ابتلاع قرص دواء مر، يجد بلير من السهل ومن الأفضل أن يوجه أصابع الاتهام واللوم إلى الضحايا.
وفي النهاية، فالمقلق بشكل كبير في خطاب بلير هو أنه محق فيما يتعلق بوجود أزمات وتحديات تواجه الشعوب في الشرق الأوسط، ولكنه يتجاهل الأسباب الجذرية لهذه الأزمات، ولا يقترح أكثر من القيام بجولة أخرى من «صراع الحضارات»، ومن ثم لا يرجى خير من ورائه.
ومن الواضح أن شعوب الشرق الأوسط تحتاج إلى تجاوز عدم التسامح وهزيمة التطرف العنيف، ولكن ما تحتاجه للفوز في هذه الحرب من الغرب هو جرعات صحية من العدالة وبناء القدرات والاستثمار في رأس المال البشري في المنطقة.
ولكنّ ما ركز عليه بلير هو النفط وإسرائيل وأمن أوروبا والمعركة الأيديولوجية داخل الإسلام، ويبدو أن الأبعاد الإنسانية في هذا الصراع والاحتياجات البشرية التي يجب تلبيتها من أجل هزيمة التطرف يبدو أنه لا نصيب لها في أجندة بلير.
(الاتحاد الإماراتية)