يؤرخ لموت الأيديولوجيا في موسكو؛ يوم أعلن آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، وفاتها رسميا، بعد موت سريري قارب عقودا. هنا ثمة من يعتقد أن فلاديمير بوتين أحيا عظامها وهي رميم؛ إذ أعاد أمجاد الاتحاد السوفيتي العظيم، ووقف مع سورية بشار ومصر السيسي بالتحالف مع إيران، على هدي الأول الذي وقف مع عبدالناصر في مواجهة الرجعية والاستعمار. وها هو بوتين يضرب ضربته في القرم، ليثبت لأميركا ومن والاها أنْ لا مكان لهم في ما كان يوما الاتحاد السوفيتي؛ وما هذه الضربة إلا صدى للضربات التي تلقاها فلول الرجعية في مصر وسورية.
العصا التي تكسر جرة من يحلمون حلم اليقظة هذا، هي إسرائيل! قبل القول عن التحالف مع آيات الله من أتباع آل ماركس، يجب الحديث قليلا عن علاقات بوتين-نتنياهو. ومما ينشر في الصحافة علانية، بعيدا عن الأبعاد السرية لهذه العلاقة، فإن ما بينهما من دفء يفوق ما بين نتنياهو وأوباما اللذين توصف علاقتهما بالبرود؛ ليس لأن أوباما عدو للصهيونية، بل لأنه صهيوني عقلاني، يسوؤه جنوح المجتمع السياسي الإسرائيلي نحو التطرف.
ساكن الكرملين لا علاقة له بأيديولوجيا ماركسية تناصر قضايا التحرر والسلم العالمي، وتعادي الرجعية والعنصرية. عصا أخرى قد تنهي أيضا حلم اليقظة السابق؛ بالمعيار الماركسي: الرئيس محمد مرسي رجعي أم تقدمي؟ ألم يستقبله بوتين بحفاوة تفوق ما لقيه السيسي؟ وهل حكام طهران بالمعيار ذاته تقدميون أم رجعيون؟ إنهم النظام الوحيد في العالم الذي ينص دستوره على أن رجال الدين يحكمونه.
خارجيا، هناك مصالح صرفة، لا علاقة لها بإيران ولا بالإخوان ولا نتنياهو. وداخليا، هل يحدثنا كهنة اليسار الجديد عن برنامج بوتين الاجتماعي؟ ماذا عن الفقراء في بلده؟ غير الأثرياء لا يجرؤون على أن يعتبوا باب موسكو. واقتصاد البلاد مبني على أسوأ أشكال النيوليبرالية. على سبيل المثال لا الحصر، تعاني روسيا من أوضاع اقتصادية طاحنة. ودورة الألعاب الأولمبية كلفت نحو خمسين مليار دولار، ويقال إن كلفتها الحقيقية، بحسب خبير بالشأن الروسي، لا تزيد على عشرة مليارات، فيما الباقي، كما يعلم أكثر الروس، ذهبت فساداً.
بقيت إيران، ولا شك في أن فيها -على الأقل من ناحية الشكل- بقية أيديولوجيا. فالحاكم هو الولي الفقيه الجامع للشرائع. والمرجعية العليا للبلاد هي القرآن الكريم، وما نقل عن آل البيت من أحاديث. واجتهاد المرجع علي خامنئي هو تكليف شرعي للمواطنين وللأتباع في كل العالم. هذه أيديولوجيا صرفة. وعمليا، ها هو قاسم سليماني يصل الليل بالنهار ساهرا على ساحات الصراع مع العدو الصهيوني وداعما لـ"الثورات"!
لكن، أين ذلك كله في الاتفاق النووي مع الغرب؟ ألم يبدأ البيع بالتقسيط للمبادئ لصالح المنافع؟ في الواقع، لا يُنكر أن في إيران، خلافا لروسيا، بقية من أيديولوجيا، لكنها لا تتقدم على مصالح البلاد العليا. وللتذكير، أوقف الخميني الحرب العراقية الإيرانية وهو يخالف مبادئه في تصدير الثورة. وبعده وقف خامنئي متفرجا على بطش صدام حسين بأتباعه في الجنوب، لأنه يعلم أن لا طاقة له بقائد الجيوش الأميركية شوارتزكوف وجنوده. وتكرر الأمر في غزو أفغانستان والعراق، يوم ساعدت إيران "الشيطان الأكبر" على احتلالهما.
لكن يظل التعلق بوهم الاتحاد السوفيتي العظيم، ووهم نظام الجمهورية الإسلامية، فسحة أمل لمن طردهم الواقع والتاريخ.