في عام 2005، نشر المفكر
المصري الراحل نصر حامد أبوزيد مقالة عميقة المحتوى في أسبوعية "أخبار الأدب" بعنوان "سقوط التنوير الحكومي"، حمل فيها على المثقفين الذين جندوا أنفسهم في خدمة النظام المصري الاستبدادي بدعوى خدمة "التنوير" ومحاربة التيارات الدينية المتطرفة. وقد وجه أبو زيد انتقادات مركبة لما سمي بفكر "التنوير" ومحدوديته وبؤسه، ثم إلى محاولة النظام استغلال هذا التراث في مواجهته مع خصومه السياسيين، وأخيراً لانتهازية وسطحية المثقفين الذين ركبوا هذا الموجة وأصبحوا جنوداً مجندين في حملة يقودها نظام قمعي يلبس وجه التنوير ويستبطن كل ظلام.
وقبل أن أمضي إلى مناط الاستشهاد من مقالة أبوزيد، أود أن أنتهز هذه الفرصة للترحم على المفكر الراحل، الذي أختلف معه في كثير من مقولاته، ولكن لا يسعني إلا أن أحترم مبدئيته وصدقه مع نفسه. يكفي أنه كتب ونشر هذه المقالة بعد أن تعرض لما تعرض له من استهداف بعض المتنطعين، حتى أخرج من بلاده. وقد ساهم أبوزيد في عام 2005 في إعداد دراسة نشرها مركز الأبحاث الهولندي أكدت على ضرورة إشراك القوى الإسلامية كافة في العملية السياسية. وكنت قد التقيت البروفيسور نصر مرة واحدة، حين أتى لحضور محاضرة دعيت لإلقائها في أمستردام عام 2007، ثم تبادلنا بعض الرسائل بعد ذلك. وكنت قبل ذلك قد نشرت في جريدة ‘الحياة’ مقالة في عام 1993 إبان محنته أدافع عن حقه في التعبير وأنتقد استهدافه باعتباره يسيء إلى الإسلام قبل أن يسيء إلى أبوزيد.
أعود الآن إلى موقع الاستشهاد بأبي زيد، حيث أورد بدوره اقتباسات من مقولات بعض "مثقفي" تلك الحقبة تفسر إلى حد كبير ما نشهده اليوم من انحطاط في الخطاب والممارسة السياسية، فضلاً عن الأخلاق والمثل. فبحسب نصر، صار ما أسهل أن يسمع الإنسان من بعض المثقفين، الذين ينسبون للفكر والمفكرين، من يقول: "نار النظم
العسكرية المستبدة أرحم من جنة دعاة الدولة الإسلامية"، بل بالغ البعض إلى حد الذهاب بأن "حذاء العسكر على الرأس أفضل من عمامة المتأسلمين". هكذا تنازل المثقف "التنويري" راضيا لا عن استقلاله الفكري فقط، بل تطوع بالانخراط انخراطا تاما في العمل في مشروع النظام السياسي".
تكتسب هذه الاقتباسات اليوم أهمية مضاعفة، ودلالات مؤلمة، من الواقع المصري الراهن، حيث أصبح رموز الفكر وأقطاب السياسة يتسابقون على تقبيل أحذية العسكر، ويعتبرون ذلك غاية الشرف. وأصبحت تماثيل السيسي (أو ‘سيدي’ على ذمة بعض من كنا نظن بهم خيراً قليلاً) تباع في ميدان التحرير في الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، في نفس الوقت الذي كان يقتل فيه الثوار الحقيقيون (من بقي منهم خارج السجون) على بعد أمتار قليلة من المكان.
هذه ظاهرة تستحق التوقف عندها طويلاً: كيف يحتفل بعض الناس بالعبودية كما يحتفل كل إنسان سوي بالحرية؟
نحن نعرف أن طائفة من المصريين كانت تؤيد نظام مبارك، بل وكانت مستعدة للقتال من أجله، رغم أنه كان يعامل كل المصريين، حتى مؤيديه، بمنتهى الاحتقار. ولم يكن الوزراء وكبار رجال الحزب يجدون الاحترام حين لا يؤدون الأدوار المطلوبة منهم. ومع ذلك ما يزال البعض يهيم بذلك النظام المفلس ويجد فيه غاية المنى. وها نحن اليوم أمام نظام فاشي إجرامي، لا يقبل كذلك مساهمات من يدعمونه بعقلانية وفهم، مثل البرادعي وأحمد ماهر، ولا يقبل إلا الغباء والتطبيل والتغييب الكامل للعقل. ومع ذلك هناك ملايين دخلوا في تلك الغيبوبة، بما فيهم قيادات الأزهر والكنيسة، ممن كان يرجى منهم الإعراض عن عبادة الاصنام، إن لم يكن إعمال شيء من العقل قليلا.
أما عمن يسمون أنفسهم بالمثقفين والأكاديميين، فحدث ولا حرج. وقبل ذلك وبعده نرى بعض السوريين (وكثير من اللبنانيين) لا يجدون بأساً بالعبودية لنظام حافظ الأسد ووريثه غير الشرعي. والغريب أن معظم هؤلاء، خاصة اللبنانيين، ليسوا بحاجة إلى الركوع والسجود للنظام السوري بعد خروجه من لبنان. بل إن هناك عربا كثيرين خارج محيط سوريا ولبنان يهيمون بالدكتاتور، ويشاركونه أمام الله جرائمه بتبريرها وإيجاد العذر لها زوراً وبهتاناً، إعراضاً عن سنة ابن عمر رضي الله، حين أصر على تنزيه لسانه عن تبرير سفك دماء نزه الله يده عنها.
وكنت أشرت سابقاً إلى سجال تطاول بين بعض المستشرقين وخصومهم، ونحن من بينهم، حول أحقية العرب بالديمقراطية. وكان الأولون يرون أن العرب، بحكم ثقافتهم ودينهم، لا يفهمون الديمقراطية، ولا يريدون العيش في حرية وكرامة أو يطيقون ذلك، ولا تصلح لهم إلا حياة القهر والعبودية ولا يصلحون إلا لها. وبالطبع كنا نجادل بكل قوة بأن هذا هراء لا معنى له، لأن كل البشر يتوقون إلى الحرية والكرامة، ولا يرضون إلا بها، والعرب ليسوا بدعاً من ذلك.
وقد وجدنا في الانتفاضة العربية العظيمة التي بدأت في تونس وعمت كل أرجاء الوطن العربي قبل ثلاث سنوات ما يثبت حجتنا ويدحض باطل المخالفين. ولكن ها نحن اليوم، وبعد ثلاث سنوات من ذلك الزلزال العظيم الذي هز عروش الطغاة، أمام مشهد سريالي يحتفل فيه الطغاة بركوع وسجود الملايين، ويتحول فيه المثقفون إلى كهنة يقرأون التعاويذ بين يدي الآلهة التي يصنعونها بأيديهم كما كان أسلافهم في الجاهلية يفعلون.
وخلال الأشهر الماضية، جلست إلى عديد من المفكرين العرب ممن هم في العادة من أهل العقل الراجح، ولكنهم في الفترة الأخيرة أصبحوا يحدثون أنفسهم بأساطير لا يصدقها حتى البلهاء. فأصبحنا نسمع عن "مؤامرة" قطرية-تركية-أمريكية يلعب فيها إخوان مصر دوراً في فرض التسوية مع إسرائيل، ولكن عين من يروجون لهذه الأساطير يسكتون اليوم عن توافقات غير سرية بطلها النظام المصري القائم الذي يحاصر غزة ويرى في حماس عدواً وإسرائيل صديقاً، ودعوات النظام السوري العلنية إلى جبهة لمحاربة الإرهاب لم يكن يوماً بعيداً عنها. وهذا يعني استعداده لبيع ‘المقاومة’ الإرهابية، بما في ذلك حزب الله، مقابل البقاء المستحيل. فكيف يصدق العقلاء أساطير ينسجونها، بينما يصمون أعينهم عن حقائق أمام أعينهم في رابعة النهار، تماماً كما يعبد البعض ما ينحتون؟
إذا عدنا إلى اقتباس أبوزيد عن من يفضلون حذاء العسكر على رأسهم بدلاً من عمامة المتأسلم، وتأملنا في هذه المسألة، نجد أن حذاء العسكر يرمز إلى القمع والإذلال، بينما العمامة لا تطلق الرصاص. وعندما يساوي البعض بين العمامة وبين البندقية، فإنه يرمز بذلك إلى الخوف من أن يميل الشعب إلى العمامة، فيرتديها أو يقبل سلطانها طوعاً، وعندها لا بد من إخراج البندقية لردع العوام. عندها تصبح البندقية هي أداة "التثقيف والتعليم"، كما كان الحال عليه في العهد الاستعماري، حين جاء المستعمرون في مهمتهم لنشر الحضارة بين "البرابرة". سوى أن المستعمرين أتوا وذهبوا، و"التمدن" المطلوب لم يحدث بعد. نفس هذه العناصر "المتمدنة" التي ورثت الاستعمار، ظلت ممسكة بالسلطة لأكثر من نصف قرن في مصر وسوريا وغيرها، دون أن يتحقق لها ما تريد من فطام الشعب عن تدينه. ولا شك أن المهمة أصبحت أصعب اليوم بعد أن انتشر الوعي ولم تعد البندقية هي الأداة المناسبة لتعليم الناس.
السؤال الأهم هو لماذا يكشف بعض "المثقفين" إفلاسهم بهذه الصراحة، فيعلنون أن خياراتهم محصورة بين أن يكونوا تحت وصاية العسكر أو ولاية الفقيه، أما هم فليست لديهم مساهمة إيجابية يقدمونها؟ ولعل المدهش أن كثيرين من هؤلاء اختاروا حذاء العسكر وعمامة الفقية معاً، فجمعوا الحسنيين، كما نشهد ممن يتهافتون على تقبيل حذاء الأسد وعمامة أوليائه في طهران والضاحية. وهذا يطرح أسئلة مهمة عما هو الشيء الذي يهرب منهم هؤلاء إن كان هذا هو حالهم وهذه خياراتهم؟ هل من أنفسهم يهربون، ومن إفلاسهم المعلن يختبئون؟
إنها لحقاً مصيبة العصر. وكنت قد نعيت على الكاتب الراحل جلال كشك حين أطلق على عرابي الهزائم العربية في حزيران/يونيو وما بعدها ساخراً تسمية "المماليك الاشتراكية"، لأن هذا في نظري يعتبر إهانة للمماليك أصحاب الاسم، لأنهم هزموا الجيوش الغازية من المغول والصليبيين. أما مماليك العصر من اشتراكية وعلمانية وليبرالية وغير ذلك، فإنهم جمعوا استعباد المواطنين إلى العبودية للأجنبي. فهناك من يشبه السيسي بعبدالناصر، وهناك مآخذ كثيرة على عبدالناصر، ولكن الجيش في عهده لم يكن يتقاضى مرتباته من الخزانة الأمريكية، ولم تكن دولته عالة على دويلات أجنبية بحجم الجيزة وبنها.
هل آن إذن أن نعلن وفاة العرب، وهو خبر قديم منذ أيام نزار قباني رحمه الله وإيانا جميعاً؟
لعله قد آن الوقت لأن تنقرض هذه الأمة ويستبدل الله قوماً غيرها "ثم لا يكونوا أمثالكم". فقد تعبنا من التبرير لخطاياها والاعتذار، عن مثالبها التي تتزايد للأسف كل يوم. فأي خير يرجى من أمة يصفق مفكروها للعبودية، ويرى كثير من مثقفيها في قتل الأطفال وتدمير البلد بكامله "مقاومة" والعدو يضحك من مثل هذه المقاومة التي تجعل حتى نتنياهو يشفق على حالنا؟