يعاني العديد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي من آثار نفسية جراء ما ارتكبوه من أعمال في غزة، فلطالما تلقوا أوامر من قادتهم بإطلاق النار على الفلسطينيين العُزّل في المدينة، لترسخ في أذهان الكثير منهم وحشية الحرب ورائحة الموت، وفق تقرير لشبكة دويتشه فيله الألمانية.
وأكد التقرير أن الإصابات والصدمات النفسية دفعت بنحو 300 جندي إسرائيلي للانتحار خلال 19 شهرًا، توفي منهم 36، وهو ما دفع الخبراء للتحذير من أن هذه الجروح حطمت القيم وخلفت آثارًا مدى الحياة، فيما حث آخرون على الشفافية في الكشف عن بيانات الانتحار لوضع حلول لهذه الظاهرة التي وصفوها بالخطيرة.
الانهيار الأخلاقي لجنود جيش الاحتلال
الفلم الوثائقي الذي حمل عنوان "خارج السرب: في قلب حرب إسرائيل"، والذي عُرض على قنوات (آي تي في 1 وآي تي في إكس وأس تي في وأس تي في بلير)، نقل تقريرًا أعده جوليان بورغر ونشرته صحيفة "الغارديان" اعترافات لجنود إسرائيليين حول ما وصفوه "حالة الفوضى في غزة وانهيارًا في المعايير والقيود القانونية"، حيث أكدوا أن قتل المدنيين في غزة كان يجري بحسب نزوات وأهواء الضباط، كما وتم استخدام الأطفال دروعًا بشرية خلال العمليات العسكرية، وأُعدم عدد منهم برفقة شيوخ عُزّل دون أي قيود أو محاسبة. وروى أحد الجنود قائلًا: "رأينا شابين يجرّان عربة، وأول رصاصة أُطلقت كانت في الرأس… رأيت بنفسي إطلاق النار على فلسطينيين غير مسلحين"، فيما قال آخر: "كل شخص في غزة في سن القتال هو إرهابي يجب قتله، سواء كان يحمل سلاحًا أو لا… يمكنك إطلاق النار بلا أي ضوابط".
وجاء في الفيلم شهادات تكشف أوامر قيادية مباشرة بتجاهل القانون الدولي والانتقام من الجميع، كما أكدت الشهادات الواردة تطبيق الجيش ما يسمى "بروتوكول البعوضة" لإجبار فلسطينيين على العمل مساعدين ميدانيين داخل الأنفاق. ولفت أحد الجنود إلى أن استخدام الطائرات المسيّرة في غزة يشبه "اللعب" وكأنه لعبة فيديو، وأكدت شهادة ضابط كبير أنه أمر دبابة بهدم مبنى لمجرد وجوده قرب خط يُمنع على الفلسطينيين تجاوزه.
"بضاعتهم ردت إليهم"
كشف قسم إعادة التأهيل في وزارة الحرب لدى دولة الاحتلال ما تصفه السلطات "بتحدٍ كبير" مع تزايد أعداد الجنود الذين يعانون من إصابات جسدية ونفسية، وهو ما أدى إلى انتكاسة في الجيش، وبالتالي تردد وعدم رغبة الجنود في القتال، ما دفع الكثير منهم للمطالبة بالتنحي وترك الخدمة والتقاعد المبكر، بحسب
تقرير لقناة 12 العبرية، وفي حالة رفض هذه الطلبات، يُقدم بعضهم على الانتحار، لأن ذلك أهون لديهم من العودة إلى غزة وفق
الباحث في الشأن الإسرائيلي مدحت ديبة، وأظهرت التحقيقات العسكرية التي نشرتها هيئة البث العبرية، أن ارتفاع حالات الانتحار تعود في الغالب للمشاهد الصعبة التي تعرض لها الجنود، وفقدان زملائهم، وعدم القدرة على التعامل مع الأحداث المروعة.
استجابة مختلفة تماما
ليمور لوريا، نائبة المدير العام ورئيسة إدارة إعادة التأهيل بوزارة الحرب الإسرائيلية، قالت: "هناك الآن فهم حقيقي بأن الإصابات النفسية لها عواقب عميقة وأن العلاج ضروري وعملي"، وأضافت: "نشهد اختلافاً بين الأجيال، ففي حين لم يطلب العديد من المحاربين القدامى الجرحى من الحروب السابقة المساعدة قط، فإن جرحى اليوم يستجيبون بشكل مختلف تماماً"، كما أقرت لوريا، بأن "وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية لا تزال قائمة بين الجنود"، مؤكدةً أن "مكافحة هذه الوصمة أولوية قصوى".
Embed from Getty Images
اضطراب ما بعد الصدمة
وزارة "الأمن" لدى دولة الاحتلال تقول إنها وثّقت ما يقرب من 11 ألف جندي يعانون إصابات نفسية منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ويمثل هذا العدد أكثر من ثلث إجمالي الجنود، البالغ عددهم 31 ألف جندي، الذين يعانون مثل هذه الإصابات في جميع الحروب التي خاضتها "إسرائيل" منذ عام 1948، وتُعرّف الوزارة إصابات الصحة النفسية بأنها اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق، والاكتئاب، ومشاكل الصحة النفسية الأخرى، ولا تشمل هذه الأرقام الجنود الذين انتحروا بعد مغادرتهم "الجيش".
بدورها، قالت صحيفة "إندبندنت" البريطانية إن أطول حرب خاضتها "إسرائيل" في تاريخها "خلّفت وراءها عدداً كبيراً من الجنود المصابين بصدمات نفسية"، وأكدت الصحيفة أنه مع تزايد عدد المصابين بأمراض نفسية بعد عامين من الحرب مع حماس، تتزايد التقارير عن اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب ومشاكل الصحة النفسية الأخرى بين الجنود، وكذلك حالات الانتحار.
فشل في سد ثغرة الأزمات النفسية
رغم إقرار وزارة الحرب بأن حجم الأزمة يفوق إمكانات المؤسسة الصحية والعسكرية، إلا أن جيش الاحتلال سارع إلى تجنيد مئات من ضباط الصحة النفسية لمواجهة تداعيات الحرب المستمرة على جبهات متعددة ، وقد أرسل خبراء إلى الخطوط الأمامية لمساعدة الجنود أثناء القتال، وأنشأ خطاً ساخناً، ووفّر جلسات علاج جماعي للمقاتلين بعد انتهاء خدمتهم، ومع هذا يُحذّر خبراء من أن "إسرائيل" ليست مُجهّزة بعد للتعامل مع هذا الحجم من الإصابات النفسية، وهي ثغرة أقرت بها إدارة إعادة التأهيل، قائلةً إن الأزمة تؤثّر على النظام الصحي الوطني بأكمله، ونقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن عدد من الجنود وعلماء النفس قولهم إن كثيرين منهم يفتقرون إلى الهدف ويجدون صعوبة في التركيز أو إقامة العلاقات، فيما يسيطر عليهم شعور متزايد باليأس مع استمرار الحرب.
400 إصابة في الرأس لا تتلقى أي استجابة
نقل
موقع ynet العبري، عن خبراء، حذروا من أن معظم إصابات الرأس بين جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي لم تُشخّص، وأنّ غياب معايير الرعاية الصحية يُضرّ بإعادة تأهيل الجرحى وعائلاتهم، ودعا رئيس اللجنة، شتيرن، إلى عدم السماح لـ"نهاية الحرب بأن يُؤدّيا إلى الإهمال"، وقال مؤسّس جمعية "كهيلات أور" إن: "400 إصابة في الرأس لا تتلقى أيّ استجابة".
وخلال جلسة نقاش عقدتها اللجنة الفرعية للموارد البشرية لدى جيش الاحتلال، والتابعة للجنة الشؤون الخارجية والأمن، برئاسة عضو الكنيست إليعازر شتيرن، حول العلاج الطبي لجنود الجيش الإسرائيلي المصابين في الرأس، أشار ستيرن إلى تعقيد علاج إصابات الرأس و"خطر النسيان"، وقال: "للأسف، لم يكن بإمكاننا قول ذلك في السابق عندما تراكمت الحالات، أما هذه المرة، فنجتمع عندما يكون هناك نوع من الهدنة، ولكن عندما يكون هناك خطر من تخلف بعض الجنود عن الركب بعد انتهاء الحرب وتراجع حجم التعامل مع هذه القضية، فأنه بات من الضروري المسارعة لمكافحة نزعة النسيان".
سبعة من كل عشرة جنود دخلوا مستشفى شيبا
وخلال المناقشة، قدمت راشيل غراندر، مديرة مركز أبحاث علوم الأعصاب في مستشفى شيبا، بياناتٍ وصفتها بالمُقلقة، تُؤكد عمق المشكلة، حيث تُظهر أن سبعة من كل عشرة جنود دخلوا مستشفى شيبا، وكانت نتائج تصوير الرأس المقطعي لديهم تكشف تعرضهم لإصابات دماغية رضية؛ وأن 94 بالمئة منها ناجمة عن التعرض لضربة؛ وأن ستة من كل عشرة جنود جرحى تم إجلاؤهم بواسطة 669 إلى شيبا، شُخِّصت نتائج فحوصات الدم لديهم ارتفاعا في إصابات الدماغ الرضحية، كما تشير التقديرات إلى أن آلاف الجنود يعانون من إصابات دماغية رضحية خفية، حيث يعود آلاف الجنود من القتال مصابين دون أن يتم تشخيصهم، ويقصد هنا "إصابات تلف الدماغ الناتج عن الصدمات - والتي يُخفى الكثير منها ولا يُكتشف في فحوصات التصوير الروتينية".
الضرر لحق بعائلات الجنود أيضا
شاهار جيزوندهايت، الرئيس التنفيذي ومؤسس جمعية "كهيلات أور" لرعاية المصابين بإصابات دماغية وعائلاتهم، قال في حديث مع موقع Ynet العبري إن: "من بين جميع جرحى الجيش الإسرائيلي، عانى 70 بالمئة منهم من إصابات دماغية، وخلال هذه الفترة، أُضيف 400 إصابة أخرى في الرأس لا يتلقون العلاج"، وأكد أن "عائلات المصابين تواجه صعوبات جمة، لافتا إلى أنه لا يوجد اليوم معيار واضح في إسرائيل بشأن علاج وإعادة تأهيل إصابات الرأس، وغيابه يضر بقدرة المصابين وعائلاتهم على العودة إلى الحياة.
ثلث زوجات جنود الاحتياط يفكرن في الطلاق
وفي دراسة جديدة صادرة عن المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي، كشفت أن ثلث زوجات جنود الاحتياط في جيش الاحتلال يُفكّرن في الانفصال أو الطلاق، في ظل تداعيات التجنيد المطوّل على الحياة الأسرية.
وبحسب القناة السابعة العبرية، جرى عرض هذه المعطيات خلال جلسة خاصة عقدتها لجنة النهوض بوضع المرأة، وأظهرت بيانات نتائج مسح حديث أن نحو نصف الأزواج أبلغوا عن تضرر علاقاتهم الزوجية، فيما أشار ثلثهم إلى أن هذه الأضرار دفعتهم للتفكير في الانفصال أو الطلاق.
كما بيّن الاستطلاع أن 5 بالمئة من الأزواج العاملين و73 بالمئة من العاملين لحسابهم الخاص تأثروا في أعمالهم، بينما اضطر 12 بالمئة منهم إلى التحوّل للعمل كموظفين، في حين لم يعمل 8 بالمئة إطلاقًاـ، وفي السياق ذاته، أفادت 58 بالمئة من المطلقات و48 بالمئة من العازبات اللواتي لديهن أطفال من جنود الاحتياط بأنهن يواجهن صعوبات مالية متزايدة، وحذّرت رئيسة اللجنة، النائبة ميراف كوهين، من أن "الأضرار التي لحقت بزوجات وعائلات جنود الاحتياط تشير إلى أزمة واسعة وعميقة.
أكذوبة التعويض المالي
من جهته، كشف جندي الاحتياط دانييل ليفين أن العديد من طلبات صندوق المساعدة تُرفض دون أي تفسير، وقال: "قدّمتُ طلبًا لتعويض عن خسارة دخل بقيمة 30 ألف شيكل (9 آلاف دولار)، ولم أتلقَّ سوى 7 آلاف شيكل (2200 دولار)"، وفق ما نقلته القناة العبرية، أما المحامي أميت تريشتينغوت، من "منتدى زوجات جنود الاحتياط"، فقال إن الردود الحكومية غير مُرضية: "نحن بحاجة إلى منح تُساعدنا معنويًا. الحكومة لا تُساهم في سد الفجوات، والمساعدة المُقدمة لا تُعكس حجم الأزمة. لا أمل في النهاية. العائلات تواجه وضعًا ماليًا صعبًا".
جنود الاحتلال يدمنون المخدرات
ومع تفاقم الأزمات النفسية، كشفت مؤسسة "ال سام" العبرية والمتخصصة بعلاج مدمني المخدرات، أن 13 بالمئة من الخاضعين للعلاج من الإدمان هم من أبناء جنود الاحتياط في جيش الاحتلال، مشيرةً إلى أن نسبة المتعافين ارتفعت بنحو 20 بالمئة مقارنةً بالسنوات السابقة، وأوضحت المؤسسة الخاصة، التي تحافظ على سرّية بيانات المتعافين لديها، أن 18بالمئة من الجنود الذين خدموا في قطاع غزة خلال ما يُسمّيه الاحتلال "حرب السيوف الحديدية" يعانون من الإدمان، وأضافت أن العديد من جنود الاحتياط عبّروا في الآونة الأخيرة عن استيائهم من طول فترة الخدمة العسكرية، مشيرةً إلى أن بعضهم فقد عمله أو اضطر إلى الطلاق أو التوجّه نحو المصحات النفسية، بينما اتجه آخرون إلى تعاطي الماريجوانا ومخدرات أخرى.
ويرى محللون إسرائيليون أن هذه الأزمة قد تمثل تحديًا استراتيجيًا خطيرًا للجيش في ظل تصاعد التوترات الإقليمية على جبهات غزة ولبنان والضفة الغربية، مشيرين إلى أن انخفاض الروح المعنوية والرغبة في البقاء داخل المؤسسة العسكرية يهددان بتقويض قدرة الجيش على الاستمرار في العمليات طويلة الأمد، وفي تقرير سابق لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، حذر من أن نهج الاستنزاف في غزة سيسحق الجنود ويقود إلى الانهيار، منتقدا إعفاء عشرات آلاف الحريديم من المشاركة في الحرب، مبينا أن ذلك "يزيد العبء على الجنود من العلمانيين".