نشرت صحيفة "غازيتا" الروسية
تقريرا سلطت من خلاله الضوء على أسباب التصعيد الأمريكي الأخير مع موسكو وتداعيات العقوبات الجديدة على الاقتصاد الروسي.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب أعلن إلغاء لقائه المقرر مع الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين في العاصمة المجرية بودابست. وفي خطوة متزامنة، أعلنت
الولايات المتحدة فرض حزمة جديدة من العقوبات ضد
روسيا وهي الأولى من نوعها خلال الولاية الثانية لترامب.
ردة فعل روسيا والعالم
على الرغم من إلغاء اللقاء المرتقب بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، أكّدت وزارة الخارجية الروسية استعدادها لمواصلة الاتصالات مع وزارة الخارجية الأمريكية.
وفي هذا الصدد، قالت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: "ننطلق من أن الرئاسة الروسية ستُدلي بتعليقاتها الرسمية بشأن هذا الموضوع في الوقت المناسب.
أما وزارة الخارجية الروسية، فهي من جانبها منفتحة على مواصلة الاتصالات مع وزارة الخارجية الأمريكية، تنفيذًا للتفاهمات التي تم التوصل إليها خلال المكالمة الهاتفية بين الرئيسين في 16 تشرين الأول/ أكتوبر".
من جانبه، صرّح نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف بأن إلغاء لقاء ترامب وبوتين يتيح للقوات المسلحة الروسية تنفيذ ضربات أكثر كثافة ضد أهداف في أوكرانيا.
وكتب مدفيديف على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي: "ثمة جانب إيجابي واضح في هذا التقلّب الجديد لما يمكن تسميته "ببندول ترامب": يمكن الآن توجيه ضربات بمختلف أنواع الأسلحة إلى مواقع الأوكرانيين دون الالتفات إلى مفاوضات لا طائل منها، وتحقيق النصر في الميدان، حيث يمكن أن يتحقق بالفعل".
أما في الغرب، فقد قوبل قرار ترامب بالترحيب، حيث أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روتّه عقب محادثاته في البيت الأبيض تأييده لمبادرة الرئيس الأمريكي الداعية إلى وقفٍ كاملٍ للأعمال القتالية.
وقال روتّه إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسعى بصدق إلى تحقيق السلام ووضع حدٍّ للحرب في أوكرانيا، مؤكدًا أن هذا الملف "قريب إلى قلبه". وأضاف روتّه: "إن وقف الأعمال القتالية هو النهج الصحيح تمامًا. علينا الآن أن نتأكد لا فقط من رغبة أوكرانيا في ذلك — وقد أعلنت استعدادها — بل أيضًا من استعداد روسيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات. كما أن العقوبات المفروضة على الشركات الروسية ستسهم في هذا المسار".
من جانبها، أعربت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية كايا كالاس في منشور عبر منصة "إكس" عن "سعادة" الاتحاد الأوروبي عقب قرار الولايات المتحدة فرض عقوبات على قطاع النفط الروسي، معتبرة أن هذه الخطوة "تجسّد قوة ووحدة الغرب في موقفه تجاه موسكو".
وفي كييف، توجّه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالشكر إلى نظيره الأمريكي على القرارات التي اتخذها، معربًا عن أمله في أن تمهّد العقوبات الجديدة الطريق أمام تزويد بلاده بصواريخ بعيدة المدى.
وقال زيلينسكي: "القرار المتعلق بحزمة العقوبات التاسعة عشرة له أهمية حاسمة بالنسبة لنا. نشكركم جزيل الشكر، فقد كنا ننتظر ذلك منذ فترة. وقف إطلاق النار ممكن بالتأكيد، لكن علينا أن نواصل الضغط على روسيا لتحقيقه فعليًا".
أول عقوبات جدية من ترامب
وحسب الباحث في الشؤون الأمريكية مالك دوداكوف فإن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلغاء لقائه مع نظيره الروسي في المجر وفرض عقوبات جديدة على موسكو يشير إلى أن ضغوط الحزب الجمهوري بدأت تؤتي ثمارها.
وقال دوداكوف: "على الرغم من أن ترامب قرر تأجيل اللقاء الذي كان مقررًا في بودابست، فإنه لم يقدم على تزويد أوكرانيا بأسلحة جديدة، وهو ما يمكن اعتباره تطورًا إيجابيًا في حد ذاته.
أما فرض العقوبات، فهو خطوة مزدوجة الدلالة: فمن جهة، تمثل أول عقوبات جدية يفرضها ترامب ضد روسيا خلال ولايته الثانية، وتشير بوضوح إلى محاولة ممارسة الضغط على موسكو. ومن جهة أخرى، قد يستخدم ترامب لاحقًا فشل هذه العقوبات ذريعة لعدم فرض عقوبات جديدة مستقبلاً".
وأوضح الخبير أن العقوبات التي فرضها ترامب "من المرجّح ألا تحقق أهدافها"، إذ ستتمكن روسيا من إعادة توجيه تدفقاتها التجارية، مما سيمنح الرئيس الأمريكي لاحقًا "فرصة للرد على ضغوط الجمهوريين بالتأكيد على أنه فرض العقوبات بالفعل، لكنها لم تحقق أي نتيجة تُذكر، وبالتالي لا جدوى من تكرارها".
ويعتقد دوداكوف أن "الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ينتهج لعبة متعددة المسارات في علاقاته مع موسكو. أولاً، يسعى ترامب إلى تعزيز موقف الولايات المتحدة التفاوضي، وثانيًا، إلى مقاومة ضغوط «الصقور» في الداخل الأمريكي، وثالثًا، اختبار إمكانية فرض عقوبات على موارد الطاقة الروسية ضمن مسارات تفاوضية منفصلة مع كلٍّ من الهند والصين، باعتبارهما من أبرز مشتري النفط الروسي حاليًا".
وأضاف دوداكوف أن "فرص ترامب في الضغط على نيودلهي وبكين للتوصل إلى صفقات تخدم المصالح الأمريكية ضئيلة للغاية كما أنه لن يتمكن من إضعاف الاقتصاد الروسي، إلا أن هذه الخطوات قد تمنحه بعض الوقت للتخلص من ضغط الجمهوريين عليه".
وقد تبنى الباحث بالشأن الأمريكي دميتري دروبنيتسكي هذا التقييم، إذ يرى أن ترامب بات "سياسيًا قليل الاستقلالية"، بعدما سمح لما وصفه بـ"الديمقراطية العالمية" بالتحكم في مسار قراراته.
وقال دروبنيتسكي: "اختار ترامب نهجًا غير صائب استراتيجيًا في التعامل مع القضايا الدولية. فقد اعتقد أنه سيتمكن عبر مهاراته التفاوضية ودبلوماسيته غير التقليدية من إنهاء النزاع في أوكرانيا بسرعة من دون معالجة جذوره العميقة. غرور ترامب كان أحد أسباب تعثره، إذ تمكّن الأورو-أطلسيون من فهم شخصيته بسرعة واستغلال نقاط ضعفه للتأثير عليه".
وحسب دروبنيتسكي، فإن هؤلاء يمارسون الضغط على ترامب عبر وسائل الإعلام والكونغرس، فهم من جهةٍ يمدحونه، ومن جهةٍ أخرى يهددونه بسحب شرعيته.
وأردف دروبنيتسكي: "كان يتعين على ترامب فور توليه الرئاسة إجراء عملية تطهير شاملة داخل الجهاز الإداري لكنه تجنب المواجهة، بل دخل في خلاف مع إيلون ماسك الذي كان يمكن أن يكون أداة فعالة في هذا المسار. جرى إبعاد جميع الشخصيات التي كانت قادرة على دعم توجه ترامب في السياسة الخارجية تدريجيًا عن مواقع النفوذ، ما جعله في نهاية المطاف شديد التبعية لوسائل الإعلام والأوروبيين والكونغرس الأمريكي، حيث يظل جناح اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى في الحزب الجمهوري أقلية، بينما يتفق معظم الديمقراطيين والجمهوريين على ضرورة بقاء الولايات المتحدة مركزًا للمنظومة الأورو أطلسية".
وأشار دروبنيتسكي إلى أنه بعد اتصالات ترامب بالرئيس الروسي، شعرت أوروبا بالقلق وسارعت إلى واشنطن لإعادة ترامب إلى المسار الأورو أطلسي التقليدي عبر الإطراء والإقناع.
وأفاد دروبنيتسكي بأن "الواقع أثبت أن ما يُسمى بالسياسة الخارجية الترامبية لا وجود لها فعليًا، لأن تنفيذها يتطلب تغييرًا جوهريًا في بنية الدولة والنخبة الحاكمة. وبعد الاتصال الهاتفي الأخير بين ترامب وبوتين، تحركت أوروبا بسرعة، وضغطت عبر الكونغرس الأمريكي، لتُنهي بذلك حياد ترامب العقائدي في ولايته الثانية، وتدفعه نحو فرض العقوبات على روسيا".
ويرى دروبنيتسكي أن ترامب شخصيًا لم يكن يريد فرض العقوبات على روسيا، مشيرًا إلى تصريحه الذي قال فيه إنه "يأمل ألا تكون هناك حاجة للعقوبات في المستقبل القريب".
وأضاف دروبنيتسكي: "أعتقد أن الولايات المتحدة ستنظم في مرحلة ما لقاءً آخر مع بوتين، وربما تُجرى مكالمات هاتفية إضافية، وستستمر بعض أشكال التواصل بين موسكو وواشنطن. لكن من الواضح أن ترامب لم يعد شخصية سياسية مستقلة".
جولة جديدة من العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا
أعلنت الولايات المتحدة في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، فرض عقوبات على أكبر شركتين نفطيتين روسيتين، هما "روس نفت" و"لوك أويل". وتشمل العقوبات تجميد أصول الشركتين داخل الولايات المتحدة ومنع الشركات والأفراد الأمريكيين من التعامل التجاري معهما أو مع الشركات التابعة لهما.
كما حذرت واشنطن من احتمال فرض عقوبات ثانوية على المؤسسات المالية الأجنبية التي تستمر في التعاون مع "روس نفت" و"لوك أويل".
وفي الوقت نفسه، أقر الاتحاد الأوروبي الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات، التي تتضمن حظر استيراد الغاز الطبيعي المسال من روسيا وفرض قيود على البنوك في كازاخستان وبيلاروسيا المشاركة في التصدير الروسي أو محاولات التهرب من العقوبات.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي كيريل باختين أن الوضع الحالي لشركات النفط الروسية ليس جديدًا ولا فريدًا، مشيرا إلى أن هذه الشركات تعرضت لقيود مماثلة في كانون الثاني/ يناير 2025.
وقال باختين: "على سبيل المثال، تُظهر التقارير المالية للنصف الأول من عام 2025 لشركة "غازبروم نفت" أنه لا توجد تأثيرات كبيرة للعقوبات الأمريكية على مؤشراتها المالية، حيث كانت ديناميكياتها متوافقة مع الاتجاه العام لتقارير شركات النفط الأخرى. ومن المرجح أن تؤدي الإجراءات الأمريكية إلى توسّع مؤقت في خصومات النفط الخام والمنتجات النفطية المصدّرة، لكن جميع الشركات في القطاع كانت قد أُتيحت لها الفرصة للاستعداد لمثل هذا السيناريو".
وفي تقييمه لتأثير العقوبات الجديدة على المواطنين الروس، أشار الخبير المالي ديمتري تريبولسكي، إلى أن العقوبات قد تسبب مشاكل في التحويلات المالية إلى الخارج، وكذلك دفع ثمن السلع والخدمات الأجنبية.
وأوضح تريبولسكي: "يبقى القطاع المالي تحت الضغط. أي قيود جديدة على التعامل مع البنوك الروسية، بما في ذلك ما يُعرف بالعقوبات الثانوية ضد المؤسسات المالية الأجنبية العاملة مع روسيا، تزيد من تعقيد المدفوعات العابرة للحدود. بالنسبة للمواطنين العاديين، هذا يعني صعوبات في التحويلات الدولية، ودفع ثمن الخدمات والسلع الأجنبية وتعقيد استيراد البضائع، مما قد يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة وتقليل توفرها".
وحسب تريبولسكي، فإن تأثير العقوبات على حياة الناس يظهر أولًا من خلال التضخم وصعوبة الحصول على المنتجات. فقيود الوصول إلى المكونات والتقنيات المستوردة، بما في ذلك الإلكترونيات الدقيقة ومعدات الإنتاج تجبر الشركات الروسية على البحث عن بدائل أغلى وأقل جودة أو إنشاء استيراد موازٍ، ما يزيد التكلفة النهائية للمنتجات.
وفي ختام التقرير ينوه تريبولسكي بأن السلطات الروسية وقطاع الأعمال تعلّما التكيف مع العقوبات من خلال إنشاء مسارات لوجستية ومالية جديدة، خصوصًا عبر الدول الصديقة، إلا أن هذه العملية تتطلب وقتًا وموارد وغالبًا ما تزيد تكاليف المعاملات، مما ينعكس في النهاية على أسعار المستهلكين.