كتاب عربي 21

السنوار يجدد مخيال العالم

"سجل بصوته شهادته فترك دليلا على أنه لم يصطنع أمام كاميرا ولم يضف مؤثرات بصرية"- إكس
المراثي التي كتبت في أبي إبراهيم بعد استشهاده، والمديح الذي كتب فيه يوم تولى القيادة، فاقت كل قدرتنا على التلخيص، وقد اطلعنا على كثيرها في كل موقع مناصر، بل حتى المذمة التي كتبت فيه في صفحات معادية لم يفتنا منها الكثير، فتمتعنا بما يأكل صدور كاتبيها من ألم. ولا نظن أننا سنزيد في ذلك فصلا نوعيا، لكننا سنحاول تأمل ما بعد الشهادة، في عالم بلا قيم عظيمة.

ماكينة رأس المال قتلت الرمزية

ليست هذه فكرتنا، فتاريخ الفن المعاصر الذي يموله رأس المال، قتل نموذج البطل وجعل حياة الناس أقرب إلى عمل الآلات السليمة، التي تنتج أفضل المنتجات المادية دون تلمّس جمالها، بل توظفها لمزيد من الإنتاج المادي الخالي من كل رمزية تربوية.

نفس الماكينة وقد استولت على السينما والفرجة، خاصة بآلتها الهوليودية الجبارة؛ صنعت لنا بطلا واحدا يقدم قيمة واحدة تخدم هدفا واحدا، وهي صورة مبنية ولا أساس لها في الواقع، صورة العضلات القاسية التي تقتل بلا رحمة ولا تسأل ضحيتها قبل القتل ماذا يريد كطلب أخير؛ كانت حتى آلات الإعدام في زمن المقاصل تسأله إكراما للحظة الأخيرة للضحية.

هذا البطل العضلي القاسي، كان يغري الأطفال في أول غرامهم بقوة الجسد، فإذا تجاوزوا مراهقتهم نسوه وتتبعوا سبل الحياة بلا بطولة مزيفة. لم يتحول رامبو إلى بطل كوني أبدا، رغم ما دره من مال على صانعيه، لكنه كان آخر الأبطال المصنوعين. ولن نخوض أكثر من ذلك في تاريخ تصنيع البطل؛ لأن المقاتل الغزاوي الحافي القدمين مسحه من ذاكرة العالم.

قبل حرب الطوفان، كان الطفل الفلسطيني يصنع بطولاته برمي حجر صغير على دبابة، فيبني رمزية أخرى بلا عضلات مفتولة، كان صغير الحجم، لكن مشيته للدبابة كانت عملاقة فيتذكره العالم الآن وقد كبر، وصار يرمي نفس الدبابة بصاروخ صغير فيطيرها أشلاء، وتتخذها أمه من بعده منشر غسيل. من هنا عادت صناعة الرموز بلا مؤثرات سينمائية، لم ير العالم رغم قوة السينما، رجلا يسير إلى دبابة ويحشر في ظهرها قنبلة ويصور انفجارها، لقد جعل من غزة مصنع رموز بلا سينما.

إخراج جيفارا من مخيال جيلي

لا نستطيب أن ننسى جيفارا، فقد تربينا على صورة النجمة الحمراء في قلنسوته البسيطة، كانت صورة نادرة، حشرها اليسار العربي في مخيلاتنا بديلا لخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص، فلم نر بطلا غيره طيلة عقود الشباب. ونقول الآن: لو كانت لنا وسائل التصوير في زمن جيفارا، هل كنا نسلم له بالبطولة مبنية على صورة واحدة وكثير من القص الذي كتب بعده؟ فقد قرأنا سيرته ولم نجد حروبا كثيرة. وقد قلل الانتصار الذي مكنه من وزارة من صورة البطل الذي صار وزيرا، لكننا في حاجتنا إلى بطل عصري وضعناه دوما ضد رامبو القاهر، فكدنا به صانع رامبو أكثر مما سلمنا له بالبطولة.

نحن الآن أمام بطل مختلف، كتب قصة شهادته من سجنه قبل أن يعيشها، كأنه خطط شهادته بنفسه، وقد سجل بصوته شهادته، فترك دليلا على أنه لم يصطنع أمام كاميرا ولم يضف مؤثرات بصرية، بل خرج على عدوه بما في يديه، فأثخن فيه، ولم يهرب من المعركة ويبحث عن سبل نجاة ليعيش مجد ما بعد النصر، وقد كان متاحا.

وقد اضطر قاتله إلى تصويره مغبرا بتراب معركته، بل لم يجد كارهوه ما يقللون منه به، فالتجؤوا إلى الدعاء عليه كالولايا المقهورات. لقد أفحم التاريخ وأفحم اللحظة، وأخرج جيفارا من مخيال الشباب العربي، وفيه كثير تربى خارج حلقات اليسار فلم يعرف جيفارا.

الشال الفلسطيني البسيط، لن يغادر أعناق جيل شهد شهادة السنوار، وفي مظاهرات العالم حل الشال محل القلنسوة، وضاعت النجمة المضافة بالألوان لصورة التقطت بالأبيض والأسود.

تجديد مخيال العالم

كشفت حرب الطوفان حاجة ثقافية إلى الرمز والرمزية، حاجة أوسع من حاجة الشباب العربي المقهور من عدو غاشم ومن أنظمة متواطئة مع العدو، تخدمه بدم شعوبها لتبقى في كراسيها بلا خجل. شباب العالم المغسول الدماغ بمؤثرات هوليود، وجد بطله الجديد.

نحيف مثل سيف حاد، مثل سهم أشيب، قليل الزينة بوجه يمكن أن نراه في كل شارع من شوارع العمال في العالم، أقرب في صورته إلى عامل بسيط، نقيض الصناعة الهوليودية التي لم تعد تمر من أذهان الشباب. يقول كل شاب فقير في زواريب العالم: هذا يشبهني أو إنه أنا في معركة ضد رأس المال، الذي يحمي الكيان الذي قتله بقذيفة دبابة، لكنه لم يجد شجاعة مواجهته عيانا، فتخفّى وراء الآلة الصماء.

السنوار في غير البلاد العربية التي لا تزال تكافح من أجل استقلالها، أعاد معركة الشباب مع رأس المال العالمي، قام الربط المنهجي الضروري بين من يمول الكيان ويسمح بالقتل وبين يديه أن يوقفه، وبين القاتل الذي يتخفى وراء التقنية ولا يواجه. كثير مما نقرأ، يكشف هذه الحقيقة القديمة المتجددة بحرب الطوفان، التي أخذت دفعة قوية بشهادة السنوار.

تفصيل أخير مهم نختم به صعود الشهيد إلى رمز كوني، سيتأخر العدو في تسليم جثة الشهيد إلى أهله لإكرامها بالدفن، وسيفاوض بها ككل تاجر بلا أخلاق، لا يحترم الموت ولا يحترم الحياة. وسيكون ذلك سببا إضافيا لإعلائه إلى رمز في ذاكرة الكون لأجيال.