تعيش الأمة الإسلامية محنة عظيمة
ومنعطفا تاريخيا حادا في تاريخها، بحيث يمكن القول إننا أمام لحظة مفصلية لا تتكرر
كثيرا على مدار التاريخ، نحن في نقطة زمنية تسبق أُفول أو صعود حضارات وأمم.
وغالبا ما تتسم هذه اللحظات الزمنية الفارقة بأحداثها المتسارعة ووقائعها الملتهبة
والتغييرات الكبيرة في البشر والشجر والعمران.
ووسط هذه الحالة من السيولة جاءت "طوفان
الأقصى" لتعطي قبلة حياة لهذه الأمة من جديد، بعد أن كادت تدخل في حالة موت
سريري لم يكن أحد يعلم متى منه تفيق.
ومع تصاعد وتيرة المعارك وقرع طبول
الحرب على كل الجبهات تلفت الناس يبحثون عن قائد يسيرون خلفه ومشروع يلتفون حوله،
وطبيعي أن تتجه أنظارهم إلى الحركات الإسلامية الراديكالية خاصة التي تمارس العمل
السياسي والمجتمعي منها، فمعارك اللحظة هي معركتها ورجال الصفوف الأولى في فلسطين
هم فرسانها.
وبالتالي، انتظر الجميع أن يروا باقي
الجيش يسير خلف هؤلاء الفرسان، دعما وحشدا ونصرة لكن كانت الصدمة كبيرة، لا أحد
ولا شيء في الأفق!! وتشتتت الحواضن الشعبية لهذه
الحركات، بل إن قواعدها حتى باتت بين يائس محبط وبين لامبال نافض اليد وآخر ساخط وغاضب
ورابع متسائل يبحث عن طريق.
كانت الصدمة كبيرة، لا أحد ولا شيء في الأفق!! وتشتتت الحواضن الشعبية لهذه الحركات، بل حتى قواعدها بين يائس محبط وبين لا مبالي نافض اليد وآخر ساخط وغاضب ورابع متسائل يبحث عن طريق
في هذا المقال نحاول الإجابة -جزئيا -
عن أحد أسباب هذه المشكلة الحاصلة، فالتشخيص السليم نصف العلاج إن لم يكن معظمه
أحيانا.
النبي والملك والجندي
في القرآن الكريم يستعرض لنا الله
جانبا من قصة طالوت وجالوت، هي قصة ملهمة كاشفة تضع إطارا ضابطا وناظما لأحد أهم
أسس
التغيير المجتمعي والأممي، كيف؟
قال تعالى: "ألم تر إلى الملأ
من بني إسرائيل من بعد موسى، إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله،
قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل
الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم،
والله عليم بالظالمين".
الملأ/ النخبة/ قادة الرأي والفكر
في هذا الملمح يطلب الملأ من بني
إسرائيل أو قادتهم أو نخبهم المفكرة من نبيهم أن يختار لهم "قائدا"
يقاتلون معه في "سبيل الله" بعد اشتداد الظلم عليهم من جالوت وجنوده.
فنحن أمام نخبة عزمت على المواجهة
واختارتها خيارا استراتيجيا وجاهزة لدفع الثمن (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله
وقد أخرجنا من ديارنا)، لكنها وهنا المفارقة لم تختر أن يكون النبي المرسل الموحى
إليه هو قائدها!! لقد طلبت قائدا يصلح للمعركة ولو كان غير نبيّ!! والعجيب أن
النبي عليه السلام -شمويل- وافقهم وأقرهم على ذلك، فالقتال وقيادة المعركة لم يكن
مؤهلا لهما رغم كونه نبيا مؤيدا من السماء!
إن هذه القاعدة القرآنية تقول بوضوح إن
صلاح وتقوى شخص ما فحسب ليس ضوءا أخضر لإعطائه صلاحية القيادة المطلقة، نحن أمام
نبي مرسل يقر لنخبته من قومه أنه سيختار لهم قائدا محترفا ليقودهم في المعركة
المنتظرة.
ومن أسف أن تجد في عصر حروب العقول
والأدمغة والذكاء الاصطناعي وعلوم السلطة والسطوة وملايين الخبراء والمحترفين
المتفرغين للقضاء على الأمة ومواطن القوة فيها؛ أن من يتصدر
قيادات بعض هذه
الحركات رجال صالحون طاعنون في السن، تطاردهم أمراض الشيخوخة.
وهذا الاستحقاق القيادي فقط لصلاح
فيه أو تاريخ بعيد يتكئ عليه، وتجدهم في هذه الحالة مطالبين بخوض نقاشات وحوارات
لا ناقة لهم فيها ولا جمل؛ تحتاج علوم العصر وفنونه، فتجده إمّا ضعيفا لا يقوى على
اتخاذ قرار، أو مُؤثِرا للسلامة يفضل أن يعيش على ما كان عليه حاله قبل ثلاثين أو
أربعين عاما، فتجد الضعف والتخبط سيد الموقف وتجد الفوضى تعم في ما وفي من حوله.
التيبس العمري والفكري خلّف حول هذه النوعية من القيادات مجموعات الاستلاب الفكري والقراري، فضعف الكبير يغري من حوله بالتقدم، فتحدث صراعات الأجنحة ومعارك المواقع والمسئوليات، وحظوظ التقدم والتأخر
فهم هذا المعنى منذ قديم ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما فقال: "ما بعثَ اللهُ نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلمَ
عالمٌ إلا شابا". وقبله كان حديث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم الصحيح: "لقد
بعثني الله بالحنفية السمحة فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ".
هذا التيبس العمري والفكري خلّف حول
هذه النوعية من القيادات مجموعات الاستلاب الفكري والقراري، فضعف الكبير يغري من
حوله بالتقدم، فتحدث صراعات الأجنحة ومعارك المواقع والمسئوليات، وحظوظ التقدم
والتأخر.
وبهذا أصبح لدينا أنبياء على شاكلة
نبي بني إسرائيل، لكنه لا يوحى إليهم من السماء ولا يختارون قائدا يناسب متطلبات
المعركة، ونخبة لم تتوفر لديها إرادة وحماسة التغيير اللازمة.
البعض حين يقرأ كلامي هذا سيجادل
بضرب أمثلة لشخصيات قادة حركات بمثل ما وصفت ونجحت، وهذه فرضية في حاجة لتفكيك،
لعدة أسباب منها أنها حالة الاستثناء وليس الأصل أو العموم، والاستثناء لا يقاس
عليه ولا تقعد له القواعد.
كذلك فإن لكل معركة طبيعتها وسياقها
وما قد يحتمل في وقت ما لا يحتمل في غيره، وفي طبيعة المرحلة الحالية نحن في حاجة
لقادة لهم دهاء ومكر الثعالب، شخصيات قوية لديها حيوية الشباب وطاقتهم، قادرة على
تحمل ضغوط العمل والتفكير، لديها فهم لطبيعة العصر وقدرة عالية على مواكبة
المتغيرات واستيعابها، لها باع في علوم الإدارة والتفكير والتخطيط وفقه الدولة
وتشعبات العلاقات الدولية ونحو ذلك الكثير.
وهذا ما نوه له المفكر الإسلامي
الكبير محمد أحمد الراشد حين قال: "إن المشكلة تكمن في أن بعض القادة يفتقرون
إلى فهم الواقع، وبالتالي يضعون خططا وأهدافا غير واقعية، ما يوقع الحركات في فخ
الفشل المتكرر" (الرقائق).
وليس أدل على الانكشاف القيادي
هذا من الخلل الكبير وتمظهراته التي يصعب تصديقها واستيعابها، فتجد في دولة رأسَ
أهم حركة إسلامية فيها يجلس مع الصهاينة على مائدة واحدة، مطبعا مع الاحتلال
الصهيوني إرضاء للملك، وفي أخرى رئيس أكبر حركة إسلامية هناك يصدر بيانا يهنئ
السيسي بالفوز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة ويهنئ الشعب المصري بهذا "النجاح
الكبير" ويتمنى له مزيدا من "الرخاء" مع السيسي!!
وفي ثالثة فرحة عارمة بالفوز بعدة
مقاعد لا تغني ولا تسمن من جوع ولا تدفع شرا ولا تجلب خيرا؛ إلا إثبات الحضور
والتواجد "مؤقتا" قبل أن يتم الحرق السياسي ثم "الإقصاء"
لاحقا.
وفي رابعة وجدنا رأس الحركة
الإسلامية فيها مؤخرا ينافس الرئيس على مقعد الرئاسة المحفوظ له، لكنها فقط مشاركة
لإضفاء المشروعية على عملية يعلم الجميع فيها أنّها مسرحية هزلية، مكتوب السيناريو
لها بإحكام لتمرير حكم ديكتاتوري جديد!
وفي خامسة وجدنا أحد قادتها يتجرع
الهزيمة حتى الثمالة ويعلن إنهاء التنافس على السلطة قولا واحدا دون قيد أو شرط أو
ثمن مستحق!! في عطاء جديد لمن لا يملك ولا يقدر لمن لا يستحق ويملك ويقدر!!
حتى الإسناد لغزة في حربها الوجودية
والأقصى المهدد بالضياع وجدنا ضجيجا عاليا دون طحين، حفاظا على "المكتسبات
الوطنية" التي هي عمليا أن تكون موجودا في هوامش السلطة أو على عتبات أبوابها،
في حضور زائف بلا قيمة مضافة لمشروعك ووطنك وأمتك.
للأسف "إن كثيرا من قيادات
الحركات الإسلامية أصبحت أسيرة للأفكار القديمة، وعاجزة عن التجديد أو مواكبة
العصر، وهذا الجمود الفكري هو أحد أسباب الفشل في تحقيق نهضة إسلامية
حقيقية"، و"إن انحصار القيادة في شيوخ لا يجيدون إلا التكرار، جعل
الحركة الإسلامية تبدو وكأنها تُكرر نفسها، دون أن تقدم حلولا واقعية لمشكلات
المجتمع" (على التوالي كتابيّ "هموم داعية" و"فقه السيرة"
للعلامة المجدد محمد الغزالي).
الجندي المقاتل
نمضي سريعا بقصة طالوت وجالوت
ونتجاوز مناكفات بني إسرائيل مع نبيهم واختبارات التصفية لإيمانهم وصدقهم مع طالوت،
حتى ثبت معه من نحو ثمانين ألف مقاتل فقط 313 في المواجهة النهائية مع جالوت وجنده
(نحو مئة ألف)!
ثم لنصل إلى مشهد النهاية عندما طلب
جالوت قائد جيش الأعداء المبارزة وهو من هو في قوته، فماذا فعل طالوت الملك
الصالح؟ هل بارزه هو؟ إنه رجل وصفه الله على لسان نبيه "إن الله قد اصطفاه
عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء"، رغم ذلك لم
يقاتل المصطفى من الله قوي العلم والجسم، لكنه أراد أن يقدم سريعا من بني إسرائيل
من يخلفه، فخرج له شاب صغير وطلب مبارزة جالوت ورفضه طالوت ثلاث مرات كما تقول كتب
التفسير،
الحركات الإسلامية على مسار عقود طويلة قدمت خدمات جليلة للأمة في مسيرة انعتاقها من الاحتلال الأجنبي، وبنت خلال رحلتها عقولا فذة وكوادر نابهة وشبابا تواقا للعمل والكفاح في سبيل أمته، وحرام أن يظل هذا الجسد العظيم الكبير يتحرك في ظل شيخوخة فكرية مقعدة
ولمّا رأى إصراره وافق بشرط أن يختبر قدرته على القتال. وفاز في الاختبار
وتقدم الشاب الحدث سيدنا داود عليه السلام للمبارزة، وقتل جالوت بحربته (فهزموهم
بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء).. الآية.. وليتحقق
للمرة الثانية نقل القيادة من طالوت إلى سيدنا داود بعد أن اكتسب داود شرعية الحكم
والصولجان بقتله طالوت الملك الظالم!!
فلم يجادل بنو إسرائيل هذه المرة في
أحقية داود في الملك أو التنافس على السلطة بمفهوم العصر، فقد أثبت جدارته أولا
بقدرته على هزيمة خصمه وبالتالي استحق جدارة أن يؤتيه الله الملك والحكمة،
والترتيب في الآية معجز.
إن كل حركة إسلامية لا تملك جدارة
التنافس على السلطة ولا تحوز أدوات السيادة والسيطرة بها هي حركة تحرث في الماء،
أو هي كالتي تنقض غزلها حينا بعد حين أو بحسب مشيئة الطغاة والمستبدين.
إن الحركات الإسلامية على مسار عقود
طويلة قدمت خدمات جليلة للأمة في مسيرة انعتاقها من الاحتلال الأجنبي، وبنت خلال
رحلتها عقولا فذة وكوادر نابهة وشبابا تواقا للعمل والكفاح في سبيل أمته، وحرام أن
يظل هذا الجسد العظيم الكبير يتحرك في ظل شيخوخة فكرية مقعدة، أفرزت عوارا معيبا
نرى تجلياته واضحة في كل مكان.
فهل يتنحى أنبياء هذه الحركات
الصالحون ويفسحون المجال لأمثال طالوت وداود؟ وهل يتحرك الملأ من بني إسرائيل -النخبة
القائدة- لفرض واقع جديد حبا لله وفداء لفلسطين؟