مقالات مختارة

بين البربرية والحضارة بالمفهوم الأمروصهيوني

الاحتلال ارتكب آلاف المجازر في غزة منذ بداية العدوان- الأناضول
أمر غريب لا يكاد يصدقه عقل. نتنياهو شخص مكروه في الكيان الذي ينتمي إليه ومن المتوقع أن يدخل السجن بمجرد توقف المجازر. المظاهرات تحاصره يوميا، وتتهمه بتعريض مستقبل الكيان لخطر وجودي ويكاد كل مؤيديه ينفضّون من حوله إلا الصهيونية الدينية التي يمثلها بن غفير وسموتريتش. ثم يلقى من التبجيل والوقوف والتصفيق أكثر من خمسين مرة خلال خطاب أمام الكونغرس الأمريكي يوم 24 تموز/ يوليو استمر أقل من ساعة.

هذه ليست المرة الأولى التي يلقى فيها مجرم الحرب نتنياهو هذا الاستقبال في الكونغرس الأمريكي، فقد كان قد ألقى خطابا تحريضيا ضد الرئيس أوباما في الكونغرس يوم 3 مايو/أيار 2015، عندما كان على وشك توقيع اتفاقية حول برنامج إيران النووي.

وهي سابقة لا أعتقد أنها حدثت في التاريخ، قديمه أو حديثه، ولا أعتقد أنها ستتكرر إلا في الولايات المتحدة.

والمرة الثانية يوم 24 حزيران/ يوليو، لتقديم روايته عن حرب الإبادة في غزة. ومع أن نصف عدد أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي تغيبوا عامدين عن الجلسة بمن فيهم نائبة الرئيس كامالا هاريس، ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، والسيناتور بيرني ساندرز وغيرهم، إلا أن الحزب الجمهوري استبدلهم بمجموعة مصفقين كي لا يبقى مقعد فارغا.


هذا ليس بيت القصيد، بل أريد أن أركز على ما طرحه نتنياهو في وصفه لحرب الإبادة التي يشنها في غزة لنحو تسعة أشهر (ساعة إلقاء الخطاب)، بأنها ليست تصادما بين الحضارات، كما طرح صامويل هنتنغتون في مقاله الشهير عام 1993 (والذي تحول إلى كتاب عام 1996)، بل هي حرب بين الحضارة والبربرية.

قال نتنياهو، على وقع تصفيق حار في الكونغرس: «لكي تنتصر قوى الحضارة يجب أن تبقى الولايات المتحدة وإسرائيل متحدتين». ونود أن نتعرف على معالم تلك الحضارة العظيمة، التي قدمها الكيان الصهيوني للمنطقة، واقترابها من الحضارة النموذج التي قدمتها الولايات المتحدة للعالم، وكيف أن الحضارتين تمثلان وجهين لعملة واحدة ضد ما سماه نتنياهو البربرية.

النماذج الصهيونية للحضارة
*التطهير العرقي والمجازر-
لقد قامت الحركة الصهيونية التي أسسها ثيودور هيرتزل على أساس التجميع من جهة والتشريد من جهة أخرى. فجريمة التطهير العرقي تقع في صلب الأيديولوجية الصهيونية. لقد مارست العصابات الصهيونية كل أنواع الجرائم والموبقات لتفريغ فلسطين من سكانها الأصلانيين.

وأهم تلك الممارسات «الحضارية جدا» ارتكاب المجازر لإخلاء البلاد، ومن أشهر تلك المجازر ما جرى في دير ياسين والدوايمة والطنطورة واللد ويافا وحيفا وغيرها الكثير.

ووثقت صحيفة «هآرتس» في 21 كانون الثاني/ يناير 2021 عن وجود مقبرة جماعية لفلسطينيين قتلوا إبّان حرب 1948 على شاطئ مدينة قيسارية الشهير. مجزرة الطنطورة، التي وثقها الفيلم الوثائقي للمخرج ألون شوارتز، تؤكد إعدام 200 ودفنهم في قبر جماعي وتحول المكان إلى موقف سيارات.

لقد تم تدمير نحو 530 قرية فلسطينية تماما وإزالتها عن الوجود. وحسب مركز الزيتونة للدراسات (مقره بيروت)، فإن عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في الفترة بين 1937 و1948، زادت عن 75 مجزرة، راح ضحيتها أكثر من 5 آلاف فلسطيني.

المجازر لم تتوقف يوما. فهذه الممارسة الحضارية، التي جلبتها معها العصابات الصهيوينة من أوروبا، خاصة التي اخترعت مفهوم معاداة السامية لم تتوقف بعد عام 1948، بل ارتكبت مجزرة قبية في الضفة الغربية عام 1953 وقتل فيها 69 فلسطينيا ومجزرة كفر قاسم عام 1956، التي تقع ضمن حدود الكيان وقتل فيها 49 فلسطينيا.

ومجزرة السموع قضاء الخليل عام 1966 ومجزرة مدرسة بحر البقر في مصر عام 1970، التي قتل فيها 30 طفلا وأصيب 50 آخرين. لقد أسقطت السلطات الصهيونية طائرة ركاب تابعة للخطوط الليبية في 21 فبراير/شباط 1973 وقتل ركابها الـ108 بمن فيهم وزير الخارجية الليبي السابق صالح بويصير.

هل نتابع أحاديث المجازر لنصل إلى صبرا وشاتيلا عام 1982 وقانا الأولى والثانية (1996 و2006) ومخيم جنين 2002، ومذابح بيت حانون 2006 وبعد ذلك الحروب المتواصلة على غزة والضفة الغربية حتى هذه الساعة. الفرق أن المجازر تحولت في غزة إلى حرب إبادة. فكيف لا يفخر نتنياهو بمثل هذه المسلكية الحضارية جدا.

*الاغتيال-
ومن معالم الحضارة التي أحضرتها العصابات الصهيونية إلى المنطقة ممارسة الاغتيال. وفي اللغة الدبلوماسية يطلق على هذه الجريمة «القتل خارج نطاق القانون».
من معالم الحضارة التي أحضرتها العصابات الصهيونية إلى المنطقة ممارسة الاغتيال

ونستطيع أن نؤرخ لأشهر عملية اغتيال عندما قامت عصابة أرغون باغتيال الوسيط الدولي السويدي الكونت برنادوت، بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 1948 في مدينة القدس، لأنه أقر بعدم صلاحية قرار التقسيم، ودعا إلى قيام دولة فلسطينية واحدة فأردوه قتيلا. ومنذ ذلك اليوم ولغاية 31 يوليو الماضي تاريخ اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية، سقط الآلاف فعلا بسبب «هذا الأسلوب الحضاري».

اغتيالات طالت فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وأردنيين ومصريين وتونسيين وعراقيين ومن كل الجنسيات. ومورس الاغتيال في كل المدن الأوروبية، وفي تونس ودبي وبغداد ودمشق ولبنان، كل لبنان وإيران وماليزيا وغيرها.


ومن الفلسطينيين نذكّر فقط بمجموعة صغيرة من الذين سقطوا اغتيالا: غسان كنفاني وناجي العلي وخليل الوزير وماجد أبو شرار وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وعز الدين القلق ونعيم خضر وعادل زعيتر ومحمود الهمشري وحسين أبو الخير وأبو حسن سلامة، وصولا إلى محمود المبحوح في دبي وغيرهم المئات. لقد أقرت سياسة الاغتيال رسميا عام 2000 خلال الانتفاضة الثانية. وأكدت منظمة بيتسيلم لحقوق الإنسان أن بين عام 2002 و2008 اغتال الكيان نحو 387 شخصا.

*العدوان-
وتعرف جريمة العدوان بقيام دولة بانتهاك سيادة دولة أخرى، سواء برا أو جوا أو بحرا، دون أن يكون ذلك رد فعل أو دفاعا عن النفس.

وهي من الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي، وتدخل ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية. ولا يكاد يمر يوم دون أن ينتهك الكيان الصهيوني سيادة دولة أخرى، خاصة دول الطوق في لبنان وسوريا ويمارس العدوان ممثلا في غارات جوية أو اختراق المجال الجوي أو ممارسة القتل والاغتيال على أرض تلك الدولة.

وقد مارس الكيان جريمة العدوان وانتهك سيادة كل دول الجوار وغيرها. فقد هاجم المجمع النووي العراقي عام 1981، ومجمع دير الزور للأبحاث النووية في سوريا 2007، وانتهك سيادة تونس ثلاث مرات (حمام الشط 1985 واغتيال خليل الوزير 1988 واغتيال المهندس محمد الزواري 2016). وانتهك سيادة الإمارات في اغتيال محمود المبحوح عام 2010 وسيادة ماليزيا في اغتيال فادي البطش عام 2018.

هذا غيض من فيض والقائمة تطول. لا أستطيع أن أفصل في جرائم الاستيطان والأبرثهايد والتعذيب والاعتقال التعسفي واعتقال القاصرين وانتهاك كرامة النساء والإهانات على الحواجز وغير ذلك الكثير.


النموذج الأمريكي
لقد امتزج هذا النموذج مع النموذج الأمريكي، الذي يتفوق على نظيره الصهيوني. فالنموذج الأمريكي يزيد على ما سبق بإعلان الحروب والاحتلال وتدبير الانقلابات وخلق الاضطرابات الداخلية والرشوة، ونشر القواعد العسكرية وممارسة السادية في التدمير والقتل بأعلى وسائل التكنولوجيا، كما شاهدنا في العراق وأفغانستان وقبل ذلك في ناغازاكي وهيروشيما وفيتنام وتشيلي وكمبوديا ولاوس وبنما وغرانادا وبيروت.

نماذج تأسست على ما سبقها من حضارات عميقة في إبادة السكان الأصليين واستجلاب ملايين الرقيق من أفريقيا وإشعال أكثر من 200 حرب خلال عمرها القصير نسبيا.

وهل من شك في أن تزاوج الحضارتين الصهيونية والأمريكية حاليا في حربهما المشتركة ضد قطاع غزة قدم النموذج الحضاري ضد «البرابرة الفلسطينيين» الذين أقاموا الجامعات والمستشفيات والمباني الحديثة ودور البحث والصحافة والمدارس، التي تستوعب أكثر من 680 ألف طالب ومزارع الفراولة والورد لتصديرها للعالم. فمن هم البرابرة ومن هم الحضاريون؟

القدس العربي