أفكَار

الإباضية في ليبيا.. وحوار هادئ مع اللجنة العلمية في الهيئة العامة للأوقاف

هيئة الأوقاف هي مؤسسة حكومية ليبية رسمية، وليست مالكة قانونا ولا شرعا حق التعبير عن عقيدة الشعب الليبي.. (إكس)
نشرت الهيئة العامة للأوقاف على صفحتها منشورا جاء فيه عن الإمام سحنون رحمه الله أنه قال: ولا تجوز شهادة أهل البدع بحال، قال: لا نجيز شهادة المعتزلة، والإباضية والجهمية والمرجئة وغيرهم من أهل الأهواء.

ثم قرأت لأحد المشايخ قولا يمنع فيه من تزويج الإباضية، وذلك كي لا "يصطبغ أولادهن بصباغ هذا المذهب في المستقبل." على حد تعبيره؛ فاستكثر الشيخ إنزال بنات المسلمين الحرائر، منزلة اليهود والنصارى الذين أباح الله زواج المحصنات منهن؟!!!



وهذه القضية واسعة الأرجاء متشعبة الأنحاء، لاتصالها بقضايا تاريخية وعقدية واجتماعية وسياسية، يصعب تفكيكها وشرحها في هذه العجالة، ولكن سيكون حواري على هيئة نقاط موجزة، لعلها تجد قلبا صافيا وأذنا واعية، وإلا فحسبي أن أقوم بواجب النصح والبيان .

1 ـ هيئة الأوقاف هي مؤسسة حكومية ليبية رسمية، وليست مالكة  قانونا ولا شرعا حق التعبير عن عقيدة الشعب الليبي، ولا يجوز لهيئة حكومية "دينية" أن تنشر مذهب القائمين عليها ـ ولو كان صوابا لديهم ـ على أنه عقيدة تمثل هذه الجهة الحكومية، أو الدولة الليبية عامة، وإن كان قصدهم بعبارة هذه عقيدتنا، عقيدة اللجنة العلمية في الهيئة، فهذا يمكن نشره في كتاب خاص، أو في موقع مستقل أو بصفة فردية، وما سوى ذلك يعد توظيفا لسلطة هيئة حكومية واستعمال ميزانيتها ومواقعها من أجل ترويج مذهب، أو منهج  معين ولو كان صوابا كما ذكرت آنفا .

هذا من حيث الشكل، والمشروعية، لا من حيث المضمون والشرعية .

إن الإباضية فرقة إسلامية، مرجعيتها الكبرى هي القرآن الكريم، والسنة النبوية، وقام عليها أئمة ثقات من أمثال جابر بن زيد الأزدي ، وأبو عبيدة بن أبي كريمة، والربيع بن حبيب وغيرهم، وطرائقهم في الاستدلال منضبطة بعلم أصول الفقه، ومصادرهم في الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب، ولديهم من كتب الرواية مسند الربيع بن حبيب
2 ـ  من حيث المضمون هناك عدة أمور، فالمنشور ذكر أن الإباضية من أهل الأهواء ولا تقبل شهادتهم. ومعلوم أن إخواننا الإباضية هم مكون أساسي وأصيل لهذا الوطن الكريم، وأتباع لهذا الدين الخاتم، والحكم بسقوط شهادتهم وأنهم من أهل الأهواء حكم خطير؛ لما يترتب عنه من  آثار، وما تتفرع عنه من أحكام متعلقة بتوثيق الزواج والطلاق، وكثير من المعاملات، وأهلية الإباضية لتقلد الوظائف العامة والخاصة في الدولة، وعدالتهم في مجتمعهم الليبي بشكل عام .

وحكمٌ "ديني" خطير مثل هذا يتطلب أن يكون مُدرَكه قطعي الثبوت والدلالة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن اللجنة العلمية كان دليلها هو "قولٌ" لأحد علماء المسلمين وهو الإمام سحنون رحمه الله. فإن كان دليل سقوط شهادة المسلم هو قول سحنون، فلا بد أن نسقط شهادة ثلاثة أرباع الشعب الليبي في داخل الوطن وخارجه، لأن الإمام سحنون، وفي نفس الصفحة من المصدر الذي نقلوا عنه، يقول بسقوط شهادة من يبيح اللعب بالحمام والنرد وسماع المزامير والطنابير. وقد نقل عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قوله  إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيام متوالية بلا حاجة، فينبغي أن لا تقبل شهادته."  فكم سيتبقى من شعبنا الليبي بحسب معيار الإمام سحنون .

لك أن تحكم بسقوط شهادة كل أولئك بأي دليل يرضيك، وبكل قول تنتقيه من أي كتاب، لكن (ليس باسم الدولة الليبية، وتحت شعار الحكومة (.

3 ـ اتفقت كلمة الفقهاء، بل كل العقلاء، على وجوب رعاية واعتداد مآلات الأقوال والأفعال قبل اجتراحها، فما هي المآلات والآثار المتوقعة من  هذا المنشور الذي تبنته هيئة الأوقاف؟

إن مآله ـ وإن لم يكن ذلك مقصودا في نياتهم ـ هو مزيد من تمزق النسيج الاجتماعي الليبي، وإشاعة التبديع والتفسيق، وتكريس التصنيف العقدي والطائفي، وتغذية البغضاء والكراهية، وإثارة الجدل المذموم بين الشباب، من أتباع الدين الواحد. وكل مآل من هذه المآلات يمثل فاقرةً كبيرة، بل بعضها تحلق " الدين " كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم .

والأخطر من ذلك هو أن هذا السلوك الخطير، "قد" يدفع بعض إخواننا الإباضية إلى الاستنجاد بالمؤسسات الأممية والدول الأجنبية للدفاع عن حقوقهم الثقافية والدينية .

4 ـ هل الإباضية ـ من الناحية العلمية الموضوعية ـ من أهل الأهواء؟

الأمانة العلمية تقتضي أن " أكرر ما نشرته وقلته منذ عشرين عاما "إن الإباضية فرقة إسلامية، مرجعيتها الكبرى هي القرآن الكريم، والسنة النبوية، وقام عليها أئمة ثقات من أمثال جابر بن زيد الأزدي ، وأبو عبيدة بن أبي كريمة، والربيع بن حبيب وغيرهم، وطرائقهم في الاستدلال منضبطة بعلم أصول الفقه، ومصادرهم في الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب، ولديهم من كتب الرواية مسند الربيع بن حبيب، أما ما وقع فيه كثير من مصنفي كتب الفرق من نسبة الإباضية للخوارج بإطلاق، فهو أمر يحتاج إلى مزيد من التدقيق والتحقيق، ولا سيما في إباضية هذا العصر، وبخاصة أن كبار علمائهم ينكرون هذه النسبة ويرفضون هذه التسمية، أما وجود الأخطاء في القضايا الظنية من مسائل العقيدة والفقه والسلوك والسياسة، فيكفي أن نراها أقوالاً مرجوحة، غير صحيحة حسب ما استقر عندنا، وتلك الأخطاء  لم ولن ينجوَ من الوقوع في مثلها أحد.

5 ـ إن استدلال الهيئة العامة للأوقاف بنصوص "المدونة" وبهذه الطريقة غير الحكيمة في الحكم على عقائد كثير من المسلمين الليبيين سابقة خطيرة جدا، قد تقود بعض أنصاف المتعلمين إلى استباحة دماء إخواننا الأمازيع من المذهب الإباضي، فقد جاء في الجزء الثاني من المدونة عن الإمام مالك: "الإباضية والحرورية وأهل الأهواء كلهم أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا".

فانظروا بالله عليكم، لو فتحنا باب الاستدلال بالمدونة، أو غيرها دون خطام ولا زمام، كيف يكون الفساد والهرج والفوضى، عندما نجعل أحكام علماء البشر كأحكام رب البشر.

أدعو مجلس الوزراء، والمجلس الأعلى للدولة، أو البرلمان، أو هيئة الأوقاف نفسها بالتعاون مع دار الإفتاء، إلى تبني مؤتمر علمي أو ندوة علمية، يدعى إليها كبار العلماء من كل التوجهات والمذاهب، من أتباع الدين الواحد في هذه البلاد، لأجل الخروج بميثاق ديني أخوي جامع، يحفظ حقوق كل الآراء المعتبرة [غير الشاذة] والمذاهب المستقرة
6 ـ لو سلمنا ـ جدلاً ـ أن الإباضية من الخوراج، وأنهم مجروحو العدالة، وشهادتهم لا تقبل، فكيف سنفعل مع أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وهو صحيح الإمام البخاري ؟ فقد  جاء في أسانيد الإمام البخاري أربعة رجال من الخوارج، وهم: يحيى بن كثير المخزومي، وداود بن الحصين، وعمران بن حطان، وزيد بن ثور الديلي .

أرأيتم  إن أخذنا بلوازم أقوالكم، كيف ستعم الفوضى، ويفضي ذلك إلى التشكيك والطعن في أهم كتب مصادر التشريع .

7 ـ أود في الختام طرح سؤال قديم كنت قد طرحته على إخواني من شيوخ الهيئة العامة للأوقاف عندما أصدروا قرارا يقتضي احتكارهم لتصنيف الفضيلة والأفكار الهدامة في المجتمع تحت برنامج "حراس الفضيلة" وسؤالي هو: هب أن الأمور السياسية تبدلت وتغيرت ـ والأيام كما تعلمون دوَل ـ ثم جاء على رأس الهيئة العامة للأوقاف عالم من علماء الإباضية، أو خصم للمتدينين، وقام بتغيير تدريجي لخطباء المساجد والإدارات، ثم صنفكم من أهل الأهواء والبدع الذين لا تقبل شهادتهم، وأقصاكم ـ بسلطان الدولة ـ عن منابر الجمعة، وأودع النشطاء منكم في السجون ظلمًا، ألا يعد هذا ظلما وجورا وعدوانا واستباحة لعرض المسلم، وإرهابا فكريا، واستعمالا لسلطان الدولة لتكميم الأفواه، ومصادرة لحرية الرأي، وقمعًا لمسلمين موحدين، ومواطنين لهم كامل الاحترام، ولدمائهم كامل العصمة؟

إخوتنا في الأوقاف: أسألكم بالله الكريم، أن تتقوا ربكم في عقائد الناس ودينهم، فإنها أغلى ما يملكون، وأن تستعدوا للقاء ربكم وقوفا دون أوقاف، وأن ترعوا الأمانة التي ساقها لكم القدر، واستأمنكم الله عليها في هذه الهيئة، وأن تجمعوا الليبيين على كلمة سواء، وتتخلقوا بهدي النبوة في الدعوة والنصح والإرشاد.

وفي نهاية هذا البيان أدعو مجلس الوزراء، والمجلس الأعلى للدولة، أو البرلمان، أو هيئة الأوقاف نفسها بالتعاون مع دار الإفتاء، إلى تبني مؤتمر علمي أو ندوة علمية، يدعى إليها كبار العلماء من كل التوجهات والمذاهب، من أتباع الدين الواحد في هذه البلاد، لأجل الخروج بميثاق ديني أخوي جامع، يحفظ حقوق كل الآراء المعتبرة [غير الشاذة] والمذاهب المستقرة، وينظم  الخطاب الديني، والأداء الدعوي والإعلامي في هذه المرحلة الحرجة التي غاب فيها الدستور وضعف فيها سلطان القانون والقضاء  وانتهكت فيها سيادة الدولة، وإلا فإن الخرق سوف يتسع على الراقع، وتنتشر الفوضى الدينية التي كانت ولا زالت سببا لأعظم الفتن في المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ .

اللهم إني قد نصحت.

*عضو مجلس الإفتاء الأوروبي.. كاتب وباحث ليبي