كتاب عربي 21

جارودي بين الإبراهيمية ووحدة الأديان ونقد الغرب والصهيونية.. قاموس المقاومة (35)

"لا بد من التمييز بين جارودي القائل بوحدة الأديان والإبراهيمية في أول عهده وبين جارودي في كتابه "الإسلام دين المستقبل"
من القضايا المهمة أن نلحظ ما أشرنا إليه في المقال السابق من فكرة النماذج الفكرية المرتحلة والتي مارست انتقالا وتحولا من فكرة إلى فكرة؛ تصل في بعض صورها إلى تحول عقدي ملحوظ، حتى حطت تلك النماذج ورست في النهاية على مرسى الإسلام كمشروع حضاري تعبر عنه كمرجعية تأسيس لرؤيتها، من دون أن يعني أن هؤلاء تحولوا لنمط واحد؛ كلهم حط في تلك المحطة بفهم عميق ونضج عظيم واجتهاد واسع عليم بمكنون هذا المشروع الحضاري، ووضع لبنة فيه اختص بها واختصت به وتشير إلى سعة المرجعية الإسلامية التي انضوى تحتها كل هؤلاء حتى لو دخلوا إليها من أبواب متفرقة؛ سواء في مجال اختصاصه أو اهتمامه أو خبراته المعرفية والفكرية والثقافية والحضارية.

كانت عملية الانتقال الفكري تلك تتسم بسمتين؛ أولاهما تطور الأفكار وثانيتهما إنضاج الأفكار في سياق خبرة الاحتكاك الدائم مع خطاب جديد وجمهور جديد؛ أدلى بمعطياته وبقدر من تصوراته ضمن خبرة التفاعل الممتد والمتبادل استقرت الأفكار وتنوعت الإسهامات والأدوار. لو أردنا أن نذكِّر ببعض هذه الخبرات لطال بنا المقام.

ولكن الشاهد في الموضوع فطنة القارئ إلى هذه الخصوصية التي تميز هذه النماذج المرتحلة في فترة الانتقالات المتعددة؛ هذه القراءة التي تربط المفكر بسياقاته التي سبقت والتي لحقت، ضمن قراءة مقام الأقوال والكتابات، بمعلومية اعتبار السياقات في تلك الأحوال المتغيرة منهجا مأمونا ومضمونا في القراءة وعمليات التقييم وما يرتبط بها من أفكار ربما لم تستقر وغالبا لن تستمر؛ ومواقف ربما تبدلت عبر هذه الرحلة والارتحال عبر مسيرته الثقافية والحضارية، وما يترتب على ذلك من منهجيات في النظر والتعامل والتناول.

القراءة التي تربط المفكر بسياقاته التي سبقت والتي لحقت، ضمن قراءة مقام الأقوال والكتابات، بمعلومية اعتبار السياقات في تلك الأحوال المتغيرة منهجا مأمونا ومضمونا في القراءة وعمليات التقييم وما يرتبط بها من أفكار ربما لم تستقر وغالبا لن تستمر؛ ومواقف ربما تبدلت عبر هذه الرحلة والارتحال عبر مسيرته الثقافية والحضارية

الأمر إذا مع استصحاب حال الانتقال والتحول والارتحال؛ لا بد أن يقترن بمنهج رصين يلحظ تلك الأحوال والتبدلات التي تطرأ على عالم الأفكار؛ بمنهج نظر بصير ومستبصر، فلا يتورط في الحكم النهائي على هذا المفكر الشخص من ملاحظة عابرة لا متفحصة لحالة الارتحال الفكري. ولهذا ربما يكون هذا هو أحد المعاني التي يمكن تدبرها في القاعدة الذهبية "الأعمال بالخواتيم"، وهو منهج نبوي قويم في الدعوة؛ مسكون بتدبر الأحوال واستثمار طاقات محتملة تسهم في المشروع الحضاري الإسلامي؛ "لعل الله يُخرج من أصلابهم". فإن كان ذلك كذلك في عالم الكفر والإيمان؛ فهو أوجب في عالم الأفكار والأقوال والمواقف إلى أن تتم مرحلة الإيمان بعد إعلان الإسلام فينتقل إلى حالة الإيمان المستقر: "ما وقر في القلب وصدّقه العمل"، بل إن هذا الأمر وفي حال الإنسان الذي يتقلب بين أحوال وأحوال؛ عليه أن يضع نُصب عينيه قاعدة ذهبية أخرى: "الإيمان يزيد وينقص وترد عليه تبدلات".. اللهم ارزقنا ثباتا على الحق والعدل؛ واجعلنا من الصالحين المصلحين.

ومن ثم من المهم استصحاب كل تلك المقدمات في تقييم عالم الأفكار والمواقف حينما نتحدث عن مواقف روجيه جارودي (رجاء جارودي)، فلا نتورط في أحكام متسرعة ومتعجلة ضمن المنهج القرآني "فتبينوا"، "فتثبتوا"؛ هذا النداء القرآني منهجيا وحركيا هو المنهج القويم المستقيم.

ولا يظن أحد أننا نحاول أن نبرر لشخص أو موقف أو نلتمس له الأعذار أو المعاذير؛ بل أردنا أن نؤصل معاني الاستقامة القرآنية في الحكم على الأشخاص والمواقف والأفكار: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنا" (النساء: 94). ولا يمكننا أن نتورط مع من تورط؛ فيلقون على مثل جارودي سهام التكفير ووصف الكفر؛ على تفهمنا لرأي بعضهم غيرة على دينهم، والأولى في هذا المقام النصح القويم لا التكفير العميم: "لأن يأتيني أحدكم برجل أهدى خير من يأتيني بحمر النعم".

صحيح أنه من أبرز من دعوا لوحدة الأديان المفكرُ الفرنسيُّ روچيه جارودي قبيل إسلامه حتى بعد إسلامه بقليل، فطرح نوعين من الوحدة أحدهما وحدة صغرى وهي "الإبراهيمية"، ويهدف من ورائها إلى توحيد الأديان التي تُعلن انتماءَها إلى أبي الأنبياء إبراهيم وهي الإسلام والنصرانية واليهودية، والنوع الآخَر وَحدة كبرى تشمل الجميع حتى الوثنية والملحدين، ولكن لم تكن تلك هي الخواتيم في عالم الأفكار والمواقف.

صحيح أنه من أبرز من دعوا لوحدة الأديان المفكرُ الفرنسيُّ روچيه جارودي قبيل إسلامه حتى بعد إسلامه بقليل، فطرح نوعين من الوحدة أحدهما وحدة صغرى وهي "الإبراهيمية"، ويهدف من ورائها إلى توحيد الأديان التي تُعلن انتماءَها إلى أبي الأنبياء إبراهيم وهي الإسلام والنصرانية واليهودية، والنوع الآخَر وَحدة كبرى تشمل الجميع حتى الوثنية والملحدين، ولكن لم تكن تلك هي الخواتيم في عالم الأفكار والمواقف

وقد واجهه الأستاذ الدكتور محمد عمارة آنذاك تعقيبا على رأيه ذلك بقوله: "وإذا كانت الغاية من حوارنا هذا مع فيلسوفنا جارودي هي المراجعة للأفكار، وإذا كنا لا يرادونا أدنى شك في إخلاص الرجل لقضايا الأمة الإسلامية، التي يدافع عن العديد من منها بنبل وبسالة، ومنها نقده لهيمنة الغرب والشمال على حضارات الجنوب -وفيها المسلمون وحضارتهم - فإننا نلح على أن الاعتقاد بالوحدة، في المعتقد والحضارة، في ظروف التوازنات الراهنة لموازين القوى -وهي شديدة الاختلال بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى- سيؤدي إلى المزيد من تكريس هيمنة "المركز الغربي" على "الأطراف"، وإلى مزيد من تقليد "الأطراف" للمركز، بدلا من الاجتهاد والإبداع، اللذين لا سبيل لهما ولا طريق إليهما إذا تخلف الإيمان بتميز النموذج الحضاري، الذي يستدعي اجتهادا متميزا وتدافعا".

ويضيف عمارة: "فتح العقول والقلوب والحِمي الفكري لمذاهب الغزاة وخصوصيات الآخرين، بدعوى وحدة العقائد، وانتفاء تفوقنا العقدي، فإنه المقدمة للهزيمة النفسية، المكرسة للهزائم الأخرى.. فالاعتقاد في التفوق العقدي -فضلا عن أنه هو الحق الذي نؤمن به- هو أفعل حوافز الأمة إلى الجهاد والاستشهاد!" وإعمال سنن التدافع الحضاري".

وخيرا فعل أحد طلاب "محمد الحافظ قادري" في جامعة الشهيد حمه لخضر في الجزائر، في رسالته لمتطلبات الماجستير "وحدة الأديان في فكر روجيه جارودي"، فجعل أحد أهم أهداف دراسته هو تجلية حقيقة دعوى جارودي حول وحدة الأديان ومتعلقاتها، وبيان فكرة الديانات الإبراهيمية لديه؛ فكانت أهم النتائج التي توصَّل إليها في دراسته القيمة والضافية "أن جارودي قد فُهمت" تصريحاته ذات البعد الفلسفي الصوفي خطأ؛ حيث كان رافضا رفضا قاطعا للدعوة إلى وحدة الأديان واستخدامها كغطاء لمصالح سياسية واقتصادية، وكانت له نظرة مختلفة للدين المسيحي وكذا الأيديولوجية الماركسية، ووجد في الإسلام ما ينقص العقيدة المسيحية والأيديولوجية الماركسية؛ حيث وجد الدين الكامل والذي يسمو بالإنسان إلى أعلى الدرجات من المثالية والحياة الواضحة المعالم والمآلات.

يؤكد جارودي أن من واجبنا "أن نوقظ الإسلام في نفوس المسلمين، حتى يستعيد فعاليته كأول عهده، ونكرر أنه في العالم المعاصر لا يزال هذا الإيمان هو الوحيد القادر على تحريك الناس، وليس هذا الأمل فقط من أجل أن يستعيد المسلمون دورهم كعنصر "فعال" في التاريخ، وليس كعضو خامل ومهين كما كان في عصر الاستعمار، ولكن هذا الأمل أيضا من أجل حضارتنا التي تتنازعها الوضعية والفردية، وبذلك أصبحت غير قادرة على طرح السؤال "لماذا" لم نجعل للحياة والموت والتاريخ معنى. وقد وقعت هذه الحضارة في براثن الزيادة من أجل الزيادة، والقوة من أجل القوة مما قادها إلى تدمير نفسها. يجب أن يكون عندنا هذا الأمل من أجل بقاء العالم".

وفق قواعد كيف نقرأ النماذج الفكرية المرتحلة؛ لا بد من التمييز بين جارودي القائل بوحدة الأديان والإبراهيمية في أول عهده وبين جارودي في كتابه "الإسلام دين المستقبل"، حيث يقول: "أظهر الإسلام شمولية كبرى في استيعابه لسائر الشعوب ذات الديانات المختلفة، وكان أكثر الأديان شمولية في استقباله للناس الذين يؤمنون بالتوحيد،
وفق قواعد كيف نقرأ النماذج الفكرية المرتحلة؛ لا بد من التمييز بين جارودي القائل بوحدة الأديان والإبراهيمية في أول عهده وبين جارودي في كتابه "الإسلام دين المستقبل"
وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم. والمثير للدهشة أنه في إطار توجهات الإسلام استطاع العرب آنذاك ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش نماذج لهذه الحضارات، بل أيضا إعطاء زخم قوى للإيمان الجديد: الإسلام. فقد تمكن المسلمون في ذلك الوقت من تقبل معظم الحضارات والثقافات الكبرى في الشرق وأفريقيا والغرب، وكانت هذه قوة كبيرة وعظيمة له. وأعتقد أن هذا الانفتاح هو الذي جعل الإسلام قويا ومنيعا".

وكذلك كتابه "الإسلام يقطن مستقبلنا"، كما كشف في عدد من كتبه حقيقة الحروب التي خاضها ويخوضها الغرب بقيادة أمريكا، ومنها كتاب "أمريكا طليعة الانحطاط"، كما ألف كتابه القيم منتقد حضارة الغرب "حفارو القبور: نداء جديد للأحياء".

وناصر قضايا عربية وإسلامية كالقضية الفلسطينية، وواجه الصهيونية بشراسة خاصة بعد مجزرة صابرا وشاتيلا في عام 1982، حيث أصدر بيان إدانة لها وقعه معه الأب ميشيل لولون، والقس إيتان ماتيو، ونشر في جريدة لوموند الفرنسية يوم 17 حزيران/ يونيو من العام نفسه بعنوان "معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان". وشن عليه الإعلام الموالي لإسرائيل والصهيونية حملة شعواء، وصوره على أنه عنصري ومعاد للسامية، وقاطعته صحف بلاده. إلا أنه لم يتراجع عن مواقفه، وفي مرحلة هامة من تاريخه أصدر الرجل كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" عام 1995.. "اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: 8).

x.com/Saif_abdelfatah