قضايا وآراء

"طوفان الأقصى" وسؤال حول الأمة

"تحول شهداءُ غزة إلى رُسُلٍ تطوف أرواحُهم بكبرى مدن العالم وأرقى الجامعات الغربية، فإذا بالشباب الطلابي يثور على صنّاع السياسات في تلك الدول"- الأناضول بحري العرفاوي
"تحول شهداءُ غزة إلى رُسُلٍ تطوف أرواحُهم بكبرى مدن العالم وأرقى الجامعات الغربية، فإذا بالشباب الطلابي يثور على صنّاع السياسات في تلك الدول"- الأناضول
1- "الأمة" انتماءٌ عَقَدي وعاطفي

لقد ظل راسخا في وعي الأجيال السابقة منذ "استواء" الدعوة المحمدية، أن المسلمين أمة واحدة على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وانتماءاتهم الجغرافية أو الطبقية، إنهم "أمة" تجمعهم عقيدة التوحيد وتؤلف بينهم محبة الله ومعاني الرحمة والتعاون والتناصر، إنهم ينتصرون لبعضهم بمقاومة المعتدين وبمنع تحوّل بعضهم إلى ظالم معتد.

فالمؤمن ينصر أخاه ظالما أو مظلوما، يدفع عنه الظلم إذا ظُلِمَ ويأخذ على يديه إذا ظَلمَ، والمؤمن يسعد لسعادة أخيه ويتألم لألمه، "لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه"، كما لو أنّ الأمة جسدٌ واحدٌ "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وفي الحديث الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع الى جنبه وهو يعلم به" (رواه الطبراني في الكبير)، فالأمة بالمفهوم القرآني وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مجرّد كتلة بشرية في مساحة جغرافية، وليست مجرّد "شعب" تحكمه سلطةٌ سياسيةٌ، وليست نَسَبا أو طبقة.

إنها هويّةٌ معنوية تحكمها قيم وأفكار ومشاعر وأهدافٌ، وإن مجالها يتسع بقدر اتساع المعاني الكبرى للإسلام العظيم، فحيث ينجذب الناس لقيم الإسلام ومعانيه، يكون حضور الأمة كمفهوم وكشعور وكمسؤولية وكانتماء، وحيث يحدث ظلمٌ أو بلاءٌ على بعض المسلمين يكون واجبُ النُّصرة والإغاثة والبذل استجابة لأمر الله تعالى وليس بدافع حسابات سياسية أو منافع اقتصادية.

هويّةٌ معنوية تحكمها قيم وأفكار ومشاعر وأهدافٌ، وإن مجالها يتسع بقدر اتساع المعاني الكبرى للإسلام العظيم، فحيث ينجذب الناس لقيم الإسلام ومعانيه، يكون حضور الأمة كمفهوم وكشعور وكمسؤولية وكانتماء، وحيث يحدث ظلمٌ أو بلاءٌ على بعض المسلمين يكون واجبُ النُّصرة والإغاثة والبذل
فالانتماء لـ"الأمة" ليس مجرّد انتماء قانوني، إنما هو انتماء عقدي وعاطفي، وهو حالة استعداد دائم لخدمة أبناء الأمة حيث كانوا، وكلما كانوا بحاجة إلى دعم وإسنادٍ. وفي الحديث عن أنس بن مالك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويُوَقّر كبيرنا"، فلا ينتمي إلى الأمة الإسلامية من لا يرحم صغارها سواء في حالة سلم أو في حالة حرب، ولا ينتمي إلى الأمة من لا يُوقّرُ كبارها، وهم أهل السّبق سواء بالسنّ أو بالجهاد أو بالفكر أو بالدعوة. فالأمة تاريخ وحضارة وتجارب تُراكمها الأجيال فلا يقطع جيلٌ مع من سبقه، ولا يتعالى كبيرٌ على صغير، فأمتنا لها من القيم والمعاني ما يجعلها مُحَصّنةً من ظاهرة "تصادم الأجيال" التي تعرفها عدة مجتمعات غربية.

2- أين "الأمة" من غزة؟

سؤال "الأمة" ليس جديدا، فقد طُرحَ منذ حملة نابوليون على مصر سنة 1798 ثم سقوط دولة الخلافة وظهور الدويلات القُطْرية بعد تعرضها لاستعمار متعدد الجنسيات، فصارت كل "دولة" تدور في فلك عالمي طلبا للحماية ورعاية لمصالح المستعمر الذي غادر بجيوشه وبقي رعاة مصالحه.

لقد غاب مفهوم الأمة ولم يعد له من أثر في سياق التاريخ، واكتفى المسلمون بالتوزع بين منظمتين يجتمع فيهما الملوك والرؤساء والسلاطين لإصدار البيانات؛ تارة باسم "الجامعة العربية" وتارة باسم "منظمة المؤتمر الإسلامي"، ولم تكن تلك الدول القُطرية متحدة في موقف أو في ممارسة، بل كثيرا ما تآمر بعضها على بعض بأوامر خارجية.

والسؤال حول "الأمة" يُطرَحُ اليوم بأكثر جدية بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 2023، حيث فجّرت "طوفانُ الأقصى" النظامَ العالميَّ برمّته وأصبحت غزة صانعةً للمشهد العالمي وكاشفة لزيف فلسفة الغرب حول حقوق الإنسان وحول الكونية والتمدن والحداثة. لقد تحول شهداءُ غزة إلى رُسُلٍ تطوف أرواحُهم بكبرى مدن العالم وأرقى الجامعات الغربية، فإذا بالشباب الطلابي يثور على صنّاع السياسات في تلك الدول، وإذا بالأعلام الفلسطينية وبالكوفية في كل أنحاء العالم كما لو أن آلاف شهداء غزة هم الذين يُحرّكون سواكن العالم يُزعجونه بالأسئلة ويستثيرون ضميره النائم، لقد تحولت غزة "المُدَمّرة" إلى أرقى مدرسة عالمية لتعليم فلسفة الحياة ومعنى الإنسان وقيم الجمال والمحبة وفضيلة الشجاعة والصبر والتضحية.

في هذه الأجواء العاصفة، وفي هذه المرحلة التاريخية المتفجّرة، تنامُ أغلب الدول الأمة الإسلامية وتغيب أغلب شعوبها عما يحدث؛ وكأنّ أبناء غزة ليسوا من أبناء "الأمة"، وكأن مفهوم الأمة بما هي انتماء عقدي وعاطفي قد اندثر بفعل ثقافة الاستهلاك وبفعل هيمنة الدول القوية عسكريا واقتصاديا، حتى صار الفرد المسلمُ يعاني عقدة الهزيمة تجاه الحضارة المادية المنتصرة والنظام العالمي الغالب.

ورغم ما توفره "طوفان الأقصى" من دروس عملية في كيف تنتصر الإرادة على البطش، وفي كيف تتحوّل أشواقُ التحرر إلى مهارات إبداعية لتوفير وسائل المقاومة وأدواتِ مواجهة قوة الشر العالمية لأكثر من ثمانية أشهر دون تردد أو تراجع، رغم تزايد عدد الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، ورغم نُدرة ضرورات العيش بسبب طول الحرب وبسبب الحصار وقصف المستشفيات ومخازن المساعدات الغذائية، فإنه لا شيء يوحي بأن "الأمة" صارت معنيةً بما يحصل، وبما يتهدّد شعوبها وحكامها، بل لا شيء يُوحي بأنّ "أمة" إسلامية تستعد لترميم خرابها الروحي والذهني والعاطفي.

بعض ردود الفعل الشعبية في بعض شوارع المدن العربية، وبعض مجهودات الإسناد إعلاميا واقتصاديا وعسكريا، رغم أهميتها، فإنها لم تستطع حتى الآن أن تمثل رسالة جدّيةً لقوى الشر مفادها أن "الأمة الإسلامية" لن تترك غزة للذّبح ولن تترك القدسَ للتهويد، ولن تترك الحضارة تفقد جوهرها الإنساني.

3- المستقبل لـ"الإنسان"

ما من محنة إلا وهي حُبلى بمنحة إذا ما استطاع الممتحنون تحويل الأزمة إلى فُرصةٍ وتحويل الألم إلى أمل وتحويل الخيانات إلى دروس.

تجاوزت "طوفان الأقصى" دلالتها الرمزية لتتحول إلى طوفان حقيقي يجرف زيف قوى الشر العالمية ويكشف بشاعة دول تزعم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ويهزم عددا من فلاسفة الحداثة ظلوا لعقود رموزا لدى الكثير من دارسي الفلسفة ومن الباحثين في الحضارة وفي الحداثة
لقد استطاع أهل غزة بما قدموه من شهداء وبما عانوه من آلام وبما أصابهم من جوع وحزن، أن يجعلوا قضيتهم في صدارة اهتمامات الرأي العام العالمي، واستطاعوا إخراج القضية من أروقة المنظمات العالمية المحتالة لبسطها أمام أعين الشعوب دون وسيط سياسي، بل فقط بدعم إعلامي من بعض القنوات والشخصيات التي انتدبها التاريخ لمهمة شريفة ومقدسة.

لقد تجاوزت "طوفان الأقصى" دلالتها الرمزية لتتحول إلى طوفان حقيقي يجرف زيف قوى الشر العالمية ويكشف بشاعة دول تزعم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ويهزم عددا من فلاسفة الحداثة ظلوا لعقود رموزا لدى الكثير من دارسي الفلسفة ومن الباحثين في الحضارة وفي الحداثة، لقد أجبرت "طوفان الأقصى" هؤلاء على إعلان عنصريتهم تجاه الفلسطينيين وتجاه العرب والمسلمين، لقد تبيّن أنهم لم يكونوا إنسانيين ولم يكونوا منتجي معرفة إنما كانوا يطوعون الحقيقة لخدمة الصهيونية العالمية.

مهمة المثقفين من مفكرين ودعاة وإعلاميين وفنانين وسياسيين الاشتغال على جبهة الوعي، وهي جبهة لا تقل أهمية عن جبهة الجغرافيا حيث يرابط الشباب المقاوم، فالمقاومة الثقافية هي مقدمة وهي مرافقة وهو حاضنة المقاومة المادية على جبهات الجغرافيا.

إن الأطفال والشباب الذين عاشوا المحنة بتفاصيلها المؤلمة، سواء في الميدان أو من خلال وسائل الإعلام، لا يمكن أن يستمروا في غفلتهم تجاه مشاريع الدوائر الاستعمارية التي تنتدب من بني جلدتنا من يُنتجون ثقافة التفاهة والسخف واللامبالاة.

x.com/bahriarfaoui1