مع اقتراب حلول فصل الصيف كل عام تتجدد احتجاجات العطش في ربوع
الجزائر، ويتزايد
غضب المواطنين الذين قست عليهم الطبيعة وتقلبات المناخ، ولم توفر لهم دولتهم الوطنية،
من الإمكانيات والوسائل ما يواجهون به تحدي الأمن المائي، وما يترتب عنه من صعوبات
في العيش والمعيش. فدائرة العطش ما انفكت تتسع، ومساحتها الترابية والبشرية اكتسحت
جل ولايات الجزائر، بل أعطت وتعطي الجزائر العاصمة نموذج الحواضر الأكثر عرضة
لانقطاعات الماء الشروب ساعات كل يوم، وبشكل يكاد يكون منتظما.
ففي شهر تموز/ يوليو من العام 2021، قطع المواطنون الطريق الرئيسية المؤدية
إلى المطار، بسبب العطش الذي ألمّ بهم لأيام، وجعل أوضاعهم المعيشية صعبة إن لم
نقل غير قابلة للاحتمال، في بلد تجاوز سكانه الأربعين مليون نسمة، وله شريط ساحلي ممتد
على المتوسط بآلاف الكيلومترات. والحقيقة أن حواضر ومدنا أخرى تظاهرت للسبب نفسه خلال
سنوات متعاقبة، من قبيل "تيزي وزو"، و"بجاية"، وتيارت"
وغيرها من المناطق التي مسّتها موجات العش وندرة
المياه.
تطرح أزمة المياه في الجزائر، وفي جوارها الإقليمي والجهوي أكثر من سؤال عن دور الدولة ومؤسساتها في تدبير المخاطر المتزايدة بسبب تراجع مخزون المياه، ونضوب أرصدة السدود وما يدخل في حكمها
ومع قرب حلول صيف هذا العام (2024) اندلعت من جديد موجات الغضب في مدينة
"تيارت"، البعيدة عن العاصمة الجزائر بأقل من 300 كلم، احتجاجا على حال
العطش الذي يعاني منه السكان، وتردي الأوضاع العام الصحية والنفسية الناجمة عن شح
المياه، وقلة البدائل المتاحة لمواجهتها. لذلك، تطرح أزمة المياه في الجزائر، وفي
جوارها الإقليمي والجهوي أكثر من سؤال عن دور الدولة ومؤسساتها في تدبير المخاطر
المتزايدة بسبب تراجع مخزون المياه، ونضوب أرصدة السدود وما يدخل في حكمها.
فالجزائر، بحسبها دولة نفطية، تملك الإمكانيات المادية الكفيلة بمساعدتها
على التغلب على مخاطر أزمة المياه، من خلال ما تتيح التكنولوجيا الجديدة من وسائل
لمواجهة ندرة المياه، ولها في ذلك نماذج ناجحة لبعض الدول العربية، التي تعاني من
استدامة قلة التساقطات المطرية وشح المياه، كما هو حال دول الخليج العربي، وتمكنت
من توظيف جزء من مقدراتها النفطية لرفع عسر الإشباع من المياه وضيق العطش عن
مواطنيها، كما وضعت سياسات عمومية موسومة بالاستمرارية والنجاعة لجعل مواجهة نقص
المياه والتغلب عليه محور اهتماماتها، وفي صدارة أولوياتها الوطنية.
لا شك أن الجزائر تحصد نتائج خياراتها التنموية المعتمدة منذ عقود، إن لم
نقل منذ الإعلان عن استقلال البلاد سنة 1962، ولا سيما مع حكم الرئيس الثاني بومدين
(1965). فقد ركزت على النفط ومشتقاته كمصدر رئيسي للثروة الوطنية، واعتبرته محور بناء
التنمية، وتركت المصادر الأخرى دون اهتمام، بل قامت بهدر ما لها من إمكانيات في المجال
الزراعي، وما تتوفر من مؤهلات في الميدان السياحي، ولأنها ربطت مصيرها بالنفط وما
له من نتائج مادية مباشرة، ساهمت في تكوين ثقافة مجتمعية، قوامها توزيع الريع
النفطي، وفق فلسفة تتوخى شراء السلم الاجتماعي، وتوطين ثقافة الاتكالية وازدراء
العمل كقيمة اجتماعية منتجة. ولأن منسوب الحكامة المالية وآليات الرقابة والفحص (Audit) وثقافة المساءلة
والمحاسبة ضعيفة الفضاء العام، لم توظف عائدات النفط في القطاعات الإستراتيجية،
كما هو حال قطاع الماء، الذي أصبح أخطر من النفط ذاته، من زاوية التأثير على
الاستقرار المجتمعي والسلم المدني.
لنتذكر أن الاستيطان الفرنسي خرج من الجزائر تاركا مساحات زراعية شاسعة، وحقولا
من الكروم والحمضيات، وزراعة القمح والحبوب إجمالا، ناهيك عن الخضراوات والفواكه،
إلا أن استراتيجية التصنيع، أو ما سماها ودعا إليها رجل الاقتصاد الفرنسي "Gerard Debernis" (1928-2010) بـ"الصناعة المصنعة" وألزم الجزائر باعتمادها، والتي دفعت
الجزائريين دفعا إلى الحلم بتحويل بلدهم إلى قطب الصناعة في المنطقة المغاربية وجعلها
"يابان شمال أفريقيا"، كانت نتيجتها المفجعة أن مُنيت سياسة التصنيع
بالفشل الذريع، بسبب ضيق السوق المغاربية وانسداد الأسواق الأجنبية أمامها،
والتبعية التكنولوجية المطلقة للجزائر تجاه الخارج.
ليست احتجاجات العطش في حواضر الجزائر ومدنها، سوى نتيجة من نتائج فشل الخيارات التنموية لسياسات الجزائر ما بعد الاستقلال، ولعل ما هو أخطر من كل هذا؛ الاستمرار في إعادة إنتاج الخيارات ذاتها، دون امتلاك جرأة وشجاعة الجهر بالحقيقة، والنظر إلى المستقبل بقدر من الموضوعية والواقعية والفاعلية
ولأن حلم التصنيع كان كبيرا وضاغطا فقد جرفت الجزائر المستقلة كل الحقوق
الزراعية لبناء المصانع، وتخلت عن تطوير ما يرتبط بالفلاحة من تشييد السدود،
واستغلال التساقطات المطرية، وتطوير مصادر المياه، فوجد الجزائريون أنفسهم يعيشون
من النفط، ولا شيء سوى النفط، ويعانون من التبعية للخارج في أمور ذات طابع
استراتيجي في حياتهم، وعلى رأسها المياه والحبوب، والخضراوات.
أما السياحة فلا وجود
لبنية تحتية تحضنها وتطورها، ولا تقاليد وثقافة تمكن الإنسان الجزائري من استغلال مؤهلات
بلاده السياحية، وهي كثيرة، من أجل خلق تراكمات مادية منتجة للتنمية ومشجعة عليها.
ليست احتجاجات العطش في حواضر الجزائر ومدنها، سوى نتيجة من نتائج فشل
الخيارات التنموية لسياسات الجزائر ما بعد الاستقلال، ولعل ما هو أخطر من كل هذا؛ الاستمرار
في إعادة إنتاج الخيارات ذاتها، دون امتلاك جرأة وشجاعة الجهر بالحقيقة، والنظر
إلى المستقبل بقدر من الموضوعية والواقعية والفاعلية.
فقد شاهد المتابعون للشأن الجزائري طوابير المواطنين يبحثون عن ليترات من
الحليب، وبعض أنواع القطنيات، والخضراوات، أما الفواكه فكانت حتى وقت ليس ببعيد
شبه منعدمة في الأسواق الجزائرية. لذلك، سيكون ملحّا ومطلوبا من النخبة القائدة في
الجزائر النظر إلى المستقبل والتخطيط له بغير العقلية التي عمرت عقودا، ورهنت السياسات
العمومية، دون جدوى، منذ الإعلان عن الاستقلال في 5 تموز/ يوليو 1962، والذي ستحل
ذكراه بعد يومين.