هاجت الدولة الصهيونية وماجت، بعد إعلان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان، تقديم طلب للمحكمة لإصدار مذكّرات استدعاء واعتقال ضد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ووزير أمنها، الجنرال احتياط يوآف غالانت.
وجاءت «الصيحة على قدر الوجع»، بعد أن تبين أن التهم الموجهة للقيادة الإسرائيلية العليا هي من الوزن الثقيل، وتشمل ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي كما جاء في لائحة الاتهام، التي نشرت على موقع
الجنائية الدولية: أولا، تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، ثانيا، القتل العمد باعتباره جريمة حرب، ثالثا، توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، رابعا، الإبادة والقتل العمد بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع باعتباره جريمة ضد الإنسانية، خامسا، الاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، سادسا، أفعال لا إنسانية أخرى باعتبارها جرائم ضد الإنسانية.
لا يحق لأي دولة أن ترتكب المجازر وتدعي الدفاع عن النفس. لقد آن الأوان لإعادة تعريف مفهوم «الدفاع عن النفس» في ظل استغلاله للإبادة الجماعية
ويتضح من حيثيات قرار المدعي العام الدولي أنه يستند إلى قاعدة بيّانات صلبة ومتماسكة، صادقت عليها بالإجماع لجنة مختصين دوليين بأعلى مستوى. وجاء في بيان كريم خان أن الجرائم المذكورة «ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين، عملا بسياسة الدولة، وهي مستمرة إلى يومنا هذا». ويبرز بوضوح أن خان يوجّه التهم إلى الدولة الصهيونية ذاتها، وليس فقط إلى نتنياهو وغالانت.
أثار إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، نيته التوجه لاستصدار أمر قضائي لاعتقال نتنياهو وغالانت، غضبا عارما في الشارع الإسرائيلي وفي أوساط النخب الأمنية والسياسية والإعلامية والأكاديمية والثقافية، وساد إجماع برفض القرار واعتباره «تجنيا» على القيادة الإسرائيلية. وأثار القرار بالأخص قلقا شديدا لدى نتنياهو، المصاب بعقدة الخوف من الملاحقة أصلا، فصار يقضي معظم وقته في محاولة للتصدي للمحكمة، وللمدعي العام وللتهم الموجهة ضده وضد غالانت. وبعد أن اعتقد حضرته على مدى عقود أنه «فرفور ذنبه مغفور»، نراه يضطر إلى مواجهة حقيقة ذاته بأنه مجرم حرب، فأكثر ما يريعه أن التهم صحيحة مئة بالمئة، وإذا اتخذ القرار باعتقاله فهو سيصبح منبوذا في الكثير من الأوساط والمحافل الدولية، إضافة إلى توريط الدولة الصهيونية في قفص الاتهام الدولي. عقدت القيادة الإسرائيلية هذا الأسبوع اجتماعات مكثّفة لبحث أساليب التصدي لإجراءات المحكمة الجنائية الدولية، وليس واضحا بعد ماذا ستفعل، ولكن برزت بشكل جلي الكثير من
الادعاءات الإسرائيلية، ونعرض هنا أهمّها:
ادعاء التكامل: يعد مبدأ التكامل، حجر الزاوية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو يعني أن الأولوية تكون للقضاء المحلي، وإذا لم يقم بممارسة ولايته الجنائية، فإن الاختصاص يتحوّل حينها للجنائية الدولية بوصفها قضاءً مكملا للقضاء المحلي. وتدعي إسرائيل على الدوام بأن لديها جهاز قضاء «قوي ومستقل وعادل وفاعل»، ما ينفي، بنظرها، لزوم تدخل المحاكم الدولية. وقد تطرق كريم خان لهذه المسألة وصرّح بأنه طلب من إسرائيل مرارا وتكرارا أن تجري تحقيقا محليا حول خروقات القانون الإنساني الدولي، لكنها لم تفعل. ومع ذلك ترك خان ثغرة في بيانه، وأكد بأن مكتبه سيستمر «في تقييم مبدأ التكامل لدى اتخاذ إجراءات فيما يتصل بالجرائم المدرجة وبمرتكبيها». وقد انتبه رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، ألوف بين، إلى هذه الثغرة وأنشأ مقالا اقترح فيه إقامة لجنة تحقيق «مستقلة ونزيهة وذات صلاحيات»، لإقناع المحكمة الدولية بالعدول عن قرارات الاعتقال، استنادا إلى مبدأ التكامل، لكن القيادة الإسرائيلية تجاهلت هذا الاقتراح.
ادعاء الديمقراطية: طنطن المتحدثون والكتاب الإسرائيليون بمقولة إن هذه هي «المرة الأولى التي توجّه فيه محكمة الجنايات الدولية أوامر استدعاء لقيادة دولة ديمقراطية». وأرسلت الدولة الصهيونية، التي تدعي الديمقراطية كذبا وتضليلا، نداءات استغاثة لما سمّتها «الدول الديمقراطية». والمنطق الإسرائيلي هنا هو أن كل الجرائم متاحة، طالما جرى اتخاذ قرار اقترافها بشكل «ديمقراطي». لقد صرح كريم خان، هذا الأسبوع، بأن قيادات غربية على أعلى المستويات قالت له بأن محكمة الجنايات معدة للعالم الثالث ودول الجنوب ولأمثال بوتين (من أعداء أمريكا – ج.ز). هنا لا بد من تأكيد المؤكّد وهو أن الجريمة تبقى جريمة بغض النظر عن إجراءات القرار بتنفيذها، فهذا لا يغّير قيد أنملة شعور أمّ فقدت ابنها.
ادعاء المعلومات المشوّهة: الرد الإسرائيلي الأول على أي تهمة بارتكاب جريمة هي وضع علامات استفهام بأن المعلومات «غير صحيحة»، «غير دقيقة»، «ملفّقة»، «مشبوهة المصدر». وقد شرعت أبواق الدولة الصهيونية محليا وفي الساحة الدولية في حملة تشكيك بصدقية المعلومات، التي اعتمد عليها قرار المدعي العام. ولكن يبدو من حيثيات هذا القرار ومن المراجعة الدقيقة، التي جرت قبل اتخاذه أن البراهين المتوفّرة مصحوبة بعلامات تعجّب صلبة أقوى بكثير من علامات الاستفهام الإسرائيلية الملتوية والمواربة.
ادعاء عدم الصلاحية: تدعي إسرائيل أن ليس للجنايات الدولية صلاحية فيما يخص المناطق المحتلة عام 1967، لأنها ليست أراضي دولة، ولأن عضوية فلسطين في ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية باطلة من أساسها. إسرائيل ما زالت تردد هذا الادعاء، على الرغم من أنّها خسرت هذه المعركة منذ سنوات، حين قررت المدعية العامة السابقة، أن للمحكمة صلاحية، وقد جاءت طلبات الاعتقال الرسمية بعنوان «طلبات لإصدار أوامر قبض في الحالة في دولة فلسطين».
ادعاء الالتزام بالقانون: يزعم الجيش الإسرائيلي أنّه يلتزم بالقانون الدولي في حربه على غزة. ولا تجد القيادة الإسرائيلية حرجا في القول بأنها حريصة على حياة المدنيين، على الرغم من الأعداد المهولة من الشهداء، بمن فيهم الأطفال والشيوخ والنساء. ويدعي جيش الاحتلال بأنه حرصا على «تجنّب الأضرار الجانبية»، يجري فحص كل هدف قبل قصفه، ويصادق على القصف محام مختص وليس قائدا عسكري فقط. وإلى جانب الكلام الممجوج عن «أكثر جيوش العالم أخلاقية»، فإن إسرائيل تحتل بلا منازع المكان الأول في العالم في البون الشاسع بين الادعاء بسمو الأخلاق والانخراط في أحطّ الجرائم الفظيعة. لقد أوضح المدعي العام كريم خان بأنه عنده أدلة دامغة بأن إسرائيل لا تلتزم بالقانون الدولي في حربها القذرة على غزة، ومن المهم أن يتزوّد المدافعون عن القضية الفلسطينية بقرارات قضائية دولية تساعد في حشد الدعم للعدالة في فلسطين.
ادعاء التمييز: من أغرب الادعاءات الإسرائيلية هو أن المحكمة الدولية تميز ضدها باعتبارها دولة «صغيرة وضعيفة» نسبيا. ويشير بعض المحللين الإسرائيليين إلى تراجع المحكمة عن التحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، بعد أن تلقت تهديدا من الإدارة الأمريكية. ويبدو هذا الادعاء واهيا، إزاء إصدار المحكمة قرارات ضد فلاديمير بوتين، زعيم الدولة العظمى روسيا.
ولكن ما تريده إسرائيل، كعادتها، هو أن تلقي الإمبراطورية الأمريكية بكامل ثقلها ضد المحكمة، التي «تجرّأت» على طلب اعتقال قيادة دولة صديقة للولايات المتحدة، استنادا إلى قانون خاص صدر بهذا الخصوص عند احتلال العراق عام 2003، للتصدي لأوامر اعتقال ضد ضباط أمريكيين وضباط من دول حليفة للولايات المتحدة، وإسرائيل تقول، نحن دولة حليف فانصرونا.
ادعاء اللاسامية: فور صدور بيان المدعي العام بشأن اعتقاله مع زميله غالانت، استل نتنياهو تهمة اللاسامية ووجهة كلامه إلى كريم خان: «بأي وقاحة تقدم على مقارنة وحوش حماس بجنود الجيش الإسرائيلي؟ هذا هو بالضبط ما تبدو عليه اللاسامية الجديدة، التي انتقلت من الجامعات في الغرب إلى المحكمة في لاهاي، يا للعار».
ويردد نتنياهو ومن معه هذه التهمة ليل نهار أملا بأن يصدّق الناس الكذبة من كثرة تكرارها. ويبدو هذا الاندفاع الإسرائيلي في التلويح بتهمة اللاسامية مفلسا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هيئة دولية من الحقوقيين المرموقين أقرت بالإجماع أن طلبات الاعتقال تستند إلى إجراءات صارمة وحقّانية وإلى دلائل قانونية دامغة، ومن بين أعضاء هذه الهيئة تيودور ميرون (94 عاما)، وهو يهودي أمريكي إسرائيلي من ضحايا الهولوكست، وعمل سفيرا لإسرائيل في كندا ومستشارا قضائيا لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فهل تتهمه الدولة الصهيونية بمعاداة السامية؟
ادعاء المماثلة المرفوضة: أكثر ما تردده أبواق الدعاية الإسرائيلية هو أن المحكمة ارتكبت «خطيئة» وضع القيادة الإسرائيلية بموازاة مع قيادة حماس. هذا الادعاء مستوحى من العالم المقلوب، تتساوى فيه الضحية بالمجرم، فمهما بلغت الانتقادات لحركة حماس، فهي تبقى تمّثل الضحايا المستضعفين في الأرض في حين أن القيادة الإسرائيلية تمثل أبشع أنواع الاحتلال والاستعمار وصناعة الموت والدمار والإبادة.
ادعاء تعطيل الصفقة: تروج الدولة الصهيونية لفكرة أن أوامر الاعتقال ستقضي على إمكانية التوصل إلى صفقة تبادل ووقف ولو مؤقت لإطلاق النار، بالادعاء بأن حماس تنتظر أن تكون من تداعيات محكمة الجنايات وقف الحرب من دون الحاجة لصفقة تبادل. وهذه حجة جديدة يستغلها نتنياهو للتغطية على موقفه الرافض للصفقة المطروحة.
ادعاء التكبيل: تدعي إسرائيل أن قرار المدعي العام الدولي يهدف إلى تكبيل أيادي إسرائيل وحرمانها من ممارسة حقها في «الدفاع عن نفسها». وبطريقة ما، تدعم الولايات المتحدة وبريطانيا هذا الادعاء. هذا الادعاء غير مقبول في القانون الدولي، لأنه لا يحق لأي دولة أن ترتكب المجازر وتدعي
الدفاع عن النفس. لقد آن الأوان لإعادة تعريف مفهوم «الدفاع عن النفس» في ظل استغلاله للإبادة الجماعية.
هناك ادعاءات إسرائيلية أخرى، لكن بالمجمل الدولة الصهيونية في مأزق صعب غير مسبوق، وهي فرصة يجب استغلالها عربيا وفلسطينيا لوقف الحرب الإجرامية القذرة على أهالي قطاع غزة والضفة ولبنان.