على الرغم من اختراع البشرية نظام المقايضة قبل نحو 6 آلاف سنة بسبب عدم وصول سكان الأرض بعد إلى اختراع النقود، إلا أن
مصر قررت أن تلجأ إلى هذا النظام لحل أزماتها مع ندرة العملات الصعبة، وشح الدولار، وزيادة أسعاره في السوق السوداء عنها بالسوق الرسمية، وسط حاجتها لتلبية احتياجات سوق هي الأكبر بمنطقة الشرق الأوسط حيث يربو على 105 ملايين مستهلك.
ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، فقد خفضت القاهرة قيمة عملتها المحلية ثلاث مرات منذ آذار/ مارس 2022، وحتى تشرين الثاني/ يناير الماضي، وسط توقعات بخفض جديد في قيمة الجنيه نهاية العام الجاري.
وهناك فجوة تمويل خارجي ونقس سيولة تعاني منها مصر، قدرها تقرير لبنك "nbk"، بنحو 12 مليار دولار هذا العام، فيما قدر كبير المحللين
الاقتصاديين بقطاع البحوث في مجموعة "إي إف جي هيرميس" محمد أبو باشا، تلك الفجوة بنحو 8 إلى 10 مليارات دولار، بحسب تقرير بحثي حديث له.
"مقايضة روسيا والهند وكينيا"
ونقل موقع "الشرق مع بلومبيرغ" عن ثلاثة مصادر بينهم مسؤولان مصريان تأكيدهم أن البنك المركزي المصري يقوم بدراسة اعتماد نظام المقايضة مع دول الهند وروسيا وكينيا ومواصلة التعامل بالعملات المحلية مع تركيا، بدلا من الدولار، في عمليات تم بعضها مع القطاع الخاص بضمان البنك المركزي المصري.
ولفت الموقع الاقتصادي إلى نماذج من نظام المقايضة قد يجري مع دول أفريقية مثل كينيا حول سلعة الشاي الذي تستورد القاهرة منها 85 ألف طن سنويا نسبة 89 بالمئة منها من نيروبي العاصمة الأفريقية في شرق القارة، وسط توقعات بتصدير الأسمدة المصرية، في المقابل.
وأوضح أن قيمة المبادلات التجارية بين مصر وروسيا بين 5 و6 مليارات دولار سنويا، حيث تصدّر القاهرة الفواكه والخضراوات والنباتات والبذور والصابون والألبان والآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية والزيوت العطرية، فيما تستورد من موسكو الحبوب والخشب والحديد والصلب والوقود المعدني والزيوت المعدنية والكتب والصحف والنحاس والمنتجات الكيماوية.
وبين أن قيمة التجارة ما بين مصر والهند بين 5 و6 مليارات دولار سنويا أيضا، حيث تصدّر القاهرة إلى نيودلهي الوقود والزيوت المعدنية والأسمدة والمنتجات الكيماوية والقطن والفواكه، فيما تستورد منها اللحوم والحديد والصلب والوقود والزيوت والمنتجات الكيماوية العضوية، والآلات والأجهزة الكهربائية.
"عملات تركيا وبريكس"
وفي السياق، اعتمدت مصر وتركيا آلية التبادل التجاري بالعملات المحلية، وهي الحركة السنوية البالغة بين 6 و8 مليارات دولار، حيث تصدّر القاهرة لأنقرة الوقود والزيوت المعدنية واللدائن والأقمشة والخيوط والمنتجات الكيماوية والأسمدة والآلات والأجهزة الكهربائية، بينما تستورد منها الملابس والحديد والصلب والأجهزة الكهربائية والزيوت والمنتجات الكيماوية والسيارات والجرارات.
وفي نقطة مضيئة أخرى في ملف التعامل بالعملات المحلية مع دول مجموعة "بريكس"، التي نالت مصر عضويتها في آب/ أغسطس الماضي، مثل السعودية والإمارات والأرجنتين وإيران وإثيوبيا وروسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا.
ومنذ الربع الأول من 2022، وتعاني الحكومة المصرية في توفير الدولار للمستوردين، ما سبب أزمة كبيرة في الكثير من قطاعات الإنتاج، التي توقفت بعضها وتقلصت الأخرى وبينها صناعة إنتاج الدواجن بشكل خاص، ما تسبب في رفع جميع السلع الأساسية والاستراتيجية، وفاقم نسب التضخم حتى تعدت نحو الـ40 بالمئة في أيلول/ سبتمبر الماضي.
خبراء اقتصاد مصريون تحدثوا إلى "عربي21"، عن الأهمية القرار الاقتصادية لهذين التوجهين المقايضة والتعامل بعلات المحلية، وتأثيراتهما الإيجابية على الاقتصاد المصري، ومدى مساهمتهما بحل أزمة الدولار، واحتمالات نجاح الفكرتين وزيادة مساحة تطبيقهما مع دول أخرى.
"ليس مبادلة بل صفقات متكافئة"
وهنا، قال الخبير الاقتصادي المصري الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب: "واضح أن هناك أخطاء في الترجمة"، موضحا أن "مشكلتنا في التصريحات أنها لا تستخدم اللغة الاقتصادية المضبوطة"، مؤكدا أن "هذا يجعل أغلب هذه التصريحات عرضة للتأويلات".
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال إن "الحديث الذي يدور حاليا سواء مع مجموعة دول (بريكس) أو بعض الدول الأفريقية ومنها كينيا ليس مسألة مقايضة، ولكنه نظام مهم في التجارة الخارجية والذي كانت تنتهجه دول لتقليل اعتمادها على الدولار أو زيادة حجم المبادلات التجارية بينها وبين الشركاء التجاريين، وهو نظام الصفقات المتكافئة".
وكيل وزارة التجارة والصناعة للبحوث الاقتصادية، أشار إلى أنه "كان هناك احتمالية أو عرض للسفارة المصرية في نيروبي أن تستورد مصر الشاي مقابل سلع أخرى"، موضحا أن "المسألة هنا ليست مقايضة بالمعنى المعروف، ولكن الحديث يجري عن صفقات متكافئة".
وبين الخبير المصري، أن "تلك الصفقات تقوم على دراسة السوق، وتقدير أن دولة تحتاج إلى سلعة معينة من أسواق معينة، وتقوم بدراسة حالة هذه الأسواق، وتبدأ في البحث عن السلع المراد استيرادها، وما يمكن أن تقدمه هي من بدائل".
وضرب مثلا بما كان يحدث بين مصر وروسيا خلال حقبة الاتحاد السوفيتي، مبينا أن "القاهرة كانت تستورد الآلات والمعدات والأسلحة، وكانت تصدر لموسكو المنسوجات".
وأكد أنه "هنا لا نقول عليه نظام مقايضة، ولكن كان الأمر قائما على النظر أو دراسة احتياجات الأسواق وما يمكن أن تقدمه هذه الدول من بدائل الشريك التجاري في مقابل الحصول على سلع منها".
ولفت إلى مثال حالة التعامل التجاري المصري الكيني، مبينا أننا "نستورد منهم الشاي، وفي المقابل نقدم لهم مجموعة من السلع مثل المنسوجات والأدوية والمواد الكيماوية، وكلها أشياء تنتجها مصر ولديها اكتفاء ذاتي منها، وتحتاجها كينيا".
"نجاح مشروط"
ويعتقد عبدالمطلب، أن "نجاح الفكرة مشكلته أنه يستلزم أن يكون هناك تباين بين هيكل التجارة الدولية بين الاقتصادين اللذين ينويان أن يكون بينهما صفقات متكافئة".
وألمح إلى أن "مشكلة مصر مع محيطها الأفريقي أن أغلب دول القارة يغلب على صادراتها أو هيكل التجارة الخارجية بها المواد الأولية والمواد الخام، ما يعني أن مصر تصدر خضروات وفاكهة وإلى حد ما بعض المحاصيل، وهو حال أغلب دول أفريقيا".
ويرى أنه "يمكن لتجربة الصفقات المتكافئة أن ينجح مع الصين على سبيل المثال، فقد تحتاج مصر إلى سلع كالخامات ومستلزمات الإنتاج وخامات معينة مثل البيليت في صناعة الحديد الذي لا تنتجه مصر، مقابل أن تصدر لبكين الخضروات والفاكهة على سبيل المثال".
وقال الخبير الاقتصادي: "في اعتقادي أن المسألة مع تركيا ربما تكون واضحة بشكل أكبر"، موضحا أن "أنقرة تحتل مرتبة متقدمة في سلم التجارة الدولية مع القاهرة، حيث تعد ثالث دولة من حيث التصدير إلى مصر".
ويعتقد أن "نظام السلع المتكافئة بين مصر وتركيا يمكن أن يحل مشكلات كثيرة للدولتين، فيمكن للقاهرة تصدير الغاز والبترول ومشتقاته، وبعض السلع المصنعة، والخضروات والفاكهة، وممكن أن تستورد من أنقرة حديد التسليح، والملابس الجاهزة، وقطع غيار السيارات، والأدوات والمعدات، وسيارات تنتجها تركيا".
وقال إن "الدولتين لديهما مشاكل مع توفير الدولار، ومع زيادة معدلات التضخم، وسوف يكون من مصلحتهما تقليل الاعتماد على الدولار في معاملاتهم التجارية"، مضيفا أنه "بالنظر لهيكل الإنتاج في مصر وهيكل الإنتاج في تركيا فإننا سنجد هناك تشابها لكن التنوع أكبر".
ويرى أن "هذا قد يجعل من فرص صفقات التبادل التجاري بينهما بعيدا عن الدولار يحقق نوعا من الأهداف المطلوبة، حيث نتحدث عن 3- 4 مليارات دولار كحجم للتبادل التجاري بين البلدين، في رقم إذا تم توفيره بالصفقات المتكافئة أو المقايضة كما تمت تسميتها فإنه يمكن تحقيق نوع من التوازن وتقليل الضغوط على الدولار".
"الصفقات الحكومية والخاصة"
ولفت عبدالمطلب، إلى معوق آخر، بقوله: "يمكن نجاح هذه المسألة، ولكن المشكلة أن هذا سيتم في إطار الصفقات الحكومية أو الصفقات بين الدول، يعني بالحديث عن مصر وتركيا فنعني الواردات الحكومية أو الواردات بضمان الحكومتين، ونفس الشيء لو تحدثنا عن واردات الشاي فهو حديث مع الحكومة الكينية".
وأوضح أنه "رغم أن حجم واردات أو صادرات الحكومات أكثر، ولكن هناك جزء مهم يقوم به القطاع الخاص، وأعتقد أنه من الصعب أن تكون هناك قناعة لدى القطاع الخاص أو الشركات الكبرى في مصر أو تركيا وغيرها بأن يتم انتهاج نظام الصفقات المتكافئة".
ويرى أن "المشكلة تتمثل في أن بعض رجال الأعمال والشركات متخصصة في التصدير فقط، يعني أن لديها سلعا معينة تقوم بتصديرها لكل دول العالم، وهناك أيضا قطاع خاص وشركات متخصصة في الاستيراد فقط".
ويعتقد أنه "يصعب مع هذا الوضع الدخول في نظام الصفقات المتكافئة، كما أن استغناء بعض الشركات عن عمولات دولية مقبولة الدفع سيكون صعبا، واستغناؤهم عن الدولار صعب، لكن في المقابل يمكن لرجال القطاع الخاص في مصر وغيرها من الشركاء الدوليين انتهاج آلية لقبول
عملة مقبولة الدفع ترضي الطرفين".
ويرى بعض المراقبين، أن أي قرار يقلل من ضغوط الدولار على الاقتصاد المصري هو خطوة جيدة، قد تقلل من حمى التفريط الحكومي في الأصول العامة للحصول على العملات الصعبة، في صفقات مثيرة لغضب المصريين والتي كان آخرها طرح نحو 35 شركة حكومية للبيع أمام مستثمرين استراتيجيين والقطاع الخاص المصري والعربي والأجنبي.
"مساوئ جمة"
وفي تعليقه على فكرة اعتماد نظام المقايضة التجاري، قال المستشار السياسي والاقتصادي الدكتور حسام الشاذلي، لـ"عربي21": "استنفد النظام المصري كل أدوات توفير السيولة والعملة الصعبة، وهو الآن في مرحلة الرضا بالموجود".
الشاذلي، الذي يرأس جامعة كامبردج المؤسسية بسويسرا، أوضح أن "محاولة اعتماد نظام المقايضة على مستوى الدولة يعزل المنظومة الاقتصادية عن المجتمع الدولي، ويربطها بمنظومات تعاني هي الأخرى من السيولة، أو ترتبط بنوعية مميزة من السلع ذات الطابع الاستهلاكي البحت، والتي في غالبها تكون متوسطة أو سيئة الجودة بمعايير السوق العالمية".
وأضاف أن "السلع عالية الجودة تجذب العملة الصعبة دائما، وتضمن ميزة نوعية للدول المنتجة لها؛ وتوفر ميزة تنافسية مشروطة على الشركاء التجاريين، أضف إلى ذلك حقيقة أن نظام المقايضة لن يساعد في توفير السيولة أو العملة بأي صورة، لأن النظام يتم بعيدا عن سوق العملة تماما".
ويعتقد الأكاديمي المصري أن "الحالة الكارثية للاقتصاد المصري وخاصة في ما يتعلق بتوفير العملة الصعبة لا تمنح النظام فرصة للاختيار؛ بل تفرض عليه اختيارات محدودة بحسب حالة العرض والطلب بالسوق الدولي".
"وغالبا ما تضطره للقبول بسلع الشريك والتي تتم عملية المقايضة فيها بناء على معايير سياسية وتجارية مقيدة تختلف عن منظومة السوق العالمي، وغالبا ما تتم في صورة صفقات منعزلة لتغطية الاحتياجات الأساسية".
وتوقع الشاذلي، أن "نرى ذلك النوع من المقايضة بين مصر وروسيا، حيث تحصل القاهرة على الحبوب والأخشاب والحديد والوقود المعدني، مقابل الخضروات، والفاكهة، والأجهزة الكهربائية، ومنتجات الألبان والزيوت العطرية؛ ويسمح حجم التبادل التجاري بين البلدين و الذي يتراوح بين 5 و6 مليارات دولار إلى إتمام صفقات ضخمة".
وواصل: "كما أننا سنرى صفقات مع الهند، مثيلة لتلك مع روسيا، وبأرقام متقاربة من المقايضة الروسية؛ كما يبدو أن كينيا ستكون شريكا لمقايضة الشاي كذلك".
وأوضح أنه "بغض النظر عن البلد؛ فكما ذكرت مسبقا فإنه سيكون لهذا النظام المحدود الاختيارات، والمركز في شريحة معينة من الشركاء تأثير مباشر على الجودة والسعر في السوق المصرية بصورة سلبية".
"التأثير السلبي"
ويرى أن "التأثير السلبي قد يمتد إلى المصانع والشركات المصرية، إذا ما تم إغراق الأسواق المصرية بسلعة معينة، حيث لا يعتمد نظام المقايضة تفعيل السياسة والقوانين المضادة للإغراق".
وهنا يزعم الخبير المصري أن "النظام بات يفتقر إلي أي اختيارات أو أدوات اقتصادية متقدمة، ويبدو أنه يأخذ مصر لعصر جديد من شح المنتجات، وتدني الجودة، وانخفاض معدل جودة الحياة لأدنى مستوى".
وأضاف: "ولأن النظام فشل في بناء أو تطوير أي منظومة إنتاجية أو تكنولوجية حديثة فسوف نرى الكثير من تلك المقايضات السيئة والمفروضة بحكم الظروف والملابسات السياسية والاقتصادية".
وختم الشاذلي، حديثه بالتأكيد على أنه "لا سبيل لمصر للخروج من أزمتها الاقتصادية، ومن كارثة السيولة والعملة الصعبة؛ إلا بحل سياسي يضمن تغيير كلي وشامل في المنظومة الاقتصادية، ويعيد ثقة الشركاء الدوليين، ويحسن التصنيف الائتماني، ويمنح مصر قبلة الحياة لمرحلة أفضل".