تحدثت
في ثلاثة مقالات سابقة عن
المشاريع الكبرى في المنطقة العربية،
المشروع الإيراني
و
المشروع الأمريكي و
المشروع التركي، وكيف تتصارع هذه المشاريع على النفوذ في
المنطقة العربية وكيف تنقسم كثير من الأنظمة العربية في تحالفاتها واصطفافاتها بين
هذه المشاريع، وكيف تنقسم النخب العربية أيضا بين الولاء لتلك المشاريع. وفي الوقت
الذي ينحاز فيه الإسلام السياسي السني للمشروع التركي ينحاز اليسار العربي
والإسلام السياسي الشيعي إلى المشروع الإيراني، بينما تنحاز النخب الليبرالية
العلمانية للمشروع الأمريكي.
حاولت
القوى العربية منذ انهيار الدولة العثمانية تلمّس المشروع العربي الكبير،
فكان مشروع الشريف الحسين بن علي الذي توافق مع الإنجليز من أجل إقامة المملكة
العربية الكبرى على أرض العراق والحجاز وبلاد الشام، إلا أن المشروع تم إجهاضه من الفرنسيين
والإنجليز بعد الحرب العالمية الأولى، نكثوا بالاتفاقيات مع الشريف وتم تقسيم
المنطقة بالاتفاق بينهم والمعروف باتفاق سايكس بيكو، فوقعت مناطق المملكة العربية
الكبرى الموعودة تحت الاحتلال الفرنسي والإنجليزي لعدة عقود من الزمن؛ قبل أن تظهر
حركات التحرر التي أجبرت المحتلين على الرحيل والجلاء عن المنطقة العربية.
حاولت القوى العروبية والقومية العربية البحث عن المشروع العربي الكبير فثارت على الأنظمة الوطنية القُطرية، لكن هذه القوى عندما وصلت للحكم سرعان ما تحولت إلى أنظمة قُطرية استبدادية عمّقت التشرذم العربي، وكان الصراع على شكل النظام بين الملكي والجمهوري على أشدّه، فأصبحت التيارات القومية واليسارية جزءا من الإشكالية، فتعمق الاستبداد وأُهدرت حقوق الإنسان
البحث
عن إقامة المشروع العربي لا زالت بوصلته تائهة منذ أكثر من قرن من الزمان دون أن
تهتدي النخب العربية المؤثرة إلى طريق الخلاص، فكانت الأنظمة الوطنية القُطرية كمحاولة
أولى لإيجاد المشروع العربي، لكنها كانت أنظمة شمولية يمينية في القُطرية، وكانت
الصراعات بين تلك الأنظمة على أشدها حتى أصبح لدينا الصراع العربي- العربي في تلك
الحقبة على أشدّه، وتحولت شمولية الأنظمة من فكرة للخلاص إلى مشكلة وجزء من الأزمة
يصعب حلها.
حاولت
القوى العروبية والقومية العربية البحث عن المشروع العربي الكبير فثارت على
الأنظمة الوطنية القُطرية، لكن هذه القوى عندما وصلت للحكم سرعان ما تحولت إلى
أنظمة قُطرية استبدادية عمّقت التشرذم العربي، وكان الصراع على شكل النظام بين
الملكي والجمهوري على أشدّه، فأصبحت التيارات القومية واليسارية جزءا من الإشكالية،
فتعمق
الاستبداد وأُهدرت حقوق الإنسان، وارتكبت تلك الأنظمة المجازر بحق شعوبها
وازدادت الصراعات العربية- العربية حتى تكلل كل ذلك بهزيمة عام 1967.
جاءت
التيارات الإسلامية بعد هزيمة حرب 67 تبشر بأن المشروع العربي الكبير يحتاج قوة
روحية لتكوينه، وطرحت الشعار الكبير الإسلام هو الحل والمشروع الإسلامي الكبير، واستدلت
في سبيل ترويج هذه النظرية السياسية على وضع العرب قبل الإسلام ووضع العرب بعد
الإسلام، فكان المد الإسلامي في قمّته منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الربيع
العربي، ليكشف لنا هذا الربيع العربي أن الفكرة الإسلامية كانت نسخة معقدة من
المشكلة العربية، فاشتعلت الحروب الطائفية والأهلية بين الشعوب العربية في سوريا
والعراق واليمن، وأصبحت الطائفية تطل برأسها في كل بلد يوجد فيه تنوع ديني سواء
كان إسلاميا إسلاميا أو إسلاميا مسيحيا، وأهدرت فرصة الربيع العربي كمنعطف تاريخي
في بناء المشروع العربي الديمقراطي الكبير، وعادت الأنظمة المستبدة مع وجود دول
شبه مفككة وفاشلة.
على إثر الهزيمة الكبيرة للربيع العربي ونجاح الثورات المضادة وسيطرة بعض الأنظمة الشمولية على زمام الحكم من جديد، بدأت تتنادى بعض النخب العربية في التأسيس للمشروع العربي الكبير من خلال إقامة الدولة القُطرية الوطنية الديمقراطية الناهضة، ومن ثم الذهاب إلى الاتحادات الكونفدرالية (جيش دفاع مشترك، عملة مشتركة، سوق عربي مشترك)، مع الإبقاء على الجيوش الوطنية والعملة الوطنية والحدود لكل دولة، صيغة تشبه الاتحاد الأوروبي الحالي
على إثر
الهزيمة الكبيرة للربيع العربي ونجاح الثورات المضادة وسيطرة بعض الأنظمة الشمولية
على زمام الحكم من جديد، بدأت تتنادى بعض النخب العربية في التأسيس للمشروع العربي
الكبير من خلال إقامة الدولة القُطرية الوطنية
الديمقراطية الناهضة، ومن ثم الذهاب
إلى الاتحادات الكونفدرالية (جيش دفاع مشترك، عملة مشتركة، سوق عربي مشترك)، مع
الإبقاء على الجيوش الوطنية والعملة الوطنية والحدود لكل دولة، صيغة تشبه الاتحاد
الأوروبي الحالي، وذلك للاستفادة من التنوع العربي الكبير في الديموغرافيا
والجغرافيا الواسعة المتنوعة والثروات الطبيعية الهائلة.
قد
تبدو فكرة النخب العربية الوطنية الديمقراطية أكثر الأفكار واقعية في بناء الدولة
القُطرية الوطنية الديمقراطية المدنية؛ المؤمنة المحافظة الحديثة المنسجمة مع
المنظومة العالمية السائدة، والذهاب للاتحاد الكونفدرالي في بناء المشروع والاتحاد
العربي الكبير الذي يمثّل الأمة العربية وهويتها ومصالح شعوبها، ويعزل باقي
المشاريع الأجنبية الطامعة التي تنافس على الأرض العربية وتسعى لتحقيق مصالحها فيها.
أثبتت
فكرة الوحدة العربية من خلال إقامة نظام سياسي واحد والوحدة الإسلامية من خلال
نظام سياسي إسلامي واحد؛ أنها أفكار طوباوية غير قابلة للتطبيق ولا الحياة، فالواقع
أثبت أنها أفكار حالمة غير قابلة للتطبيق، بل على العكس أصبحت هذه الأفكار جزءا من
المشكلة لا جزءا من الحل.
أثبتت فكرة الوحدة العربية من خلال إقامة نظام سياسي واحد والوحدة الإسلامية من خلال نظام سياسي إسلامي واحد؛ أنها أفكار طوباوية غير قابلة للتطبيق ولا الحياة، فالواقع أثبت أنها أفكار حالمة غير قابلة للتطبيق، بل على العكس أصبحت هذه الأفكار جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل
المشروع
الناجح الذي حصل في أوروبا من خلال قيام دول وطنية ديمقراطية وقيام اتحاد كونفدرالي
فيما بينها؛ هو النموذج الذي أثبتت التجربة العملية أنه المشروع القابل للحياة في
المنطقة العربية، وأنه المشروع الذي يحترم التباين والاختلاف في العقائد والأعراق
وحتى التباين الواضح بين طبائع الشعوب، وهو المشروع المرن الذي يحتضن كل تلك
الاختلافات والتباينات ليصنع منها عامل تنوع يثري المشروع وينهض به.
بلا
شك أن العقبات أمام هذا المشروع كبيرة جدا، فلا زالت تلك النظرية لم تأخذ حظها من الانتشار
النخبوي والشعبي، كما أن هذا المشروع يحتاج قيام أنظمة ديمقراطية بأشكال مختلفة
ونماذج مختلفة يكون العنصر الأساسي فيها حكم الشعوب لأنفسها. وهذا يتعارض ويتقاطع
مع مصالح كثير من الأنظمة الشمولية العربية القائمة، فالأنظمة العربية لا زالت
منقسمة بين أنظمة مستبدة شمولية، وأنظمة نصف ديمقراطية، وأنظمة قريبة من الأنظمة
الديمقراطية الحديثة إلى درجة مقبولة، والأهم من كل ذلك وجود مشروع صهيوني يعمل من
أجل منع قيام أي تعاون عربي مشترك وديمقراطيات عربية ناجحة؛ لأن ذلك يهدد وجوده في
المنطقة وعنصر تميّزه.
البدء
للعمل لهذا المشروع يكون بإقناع النخب العربية بضرورة العمل على هذا المشروع، ومن
ثم إقناع الشعوب العربية التي يمكن أن تناضل بطريقة سليمة من أجل الخلاص من الاستبداد
والتحول إلى الأنظمة الديمقراطية، لينطلق القطار بعد ذلك ويتحقق الحلم العربي الكبير.