نشرت
مجلة "
فورين بوليسي" مقالا للكاتب والمحلل، محمود سالم، قال فيه إن الصراع
في
السودان دخل أسبوعه السادس مع عدم وجود اختراق دبلوماسي.
يهدد الصراع على السلطة
بين القوات المسلحة السودانية، ومنافستها شبه العسكرية، قوات الدعم السريع، بالتحول
إلى حرب أهلية شاملة. حتى الآن، لقي ما يقرب من 1000 شخص مصرعهم، وفر أكثر من
300,000 شخص من البلاد، من بينهم ما لا يقل عن 120,000 عبروا الحدود إلى
مصر، حيث يقيم
أصلا 4 ملايين مواطن سوداني آخرين.
وقال
إن مصر كجارة للسودان ستكون الدولة الأجنبية الأكثر تضررا بشكل مباشر من الصراع المستمر؛
لا سيما تلك الآثار التي خلقتها الأزمات الاقتصادية وأزمة اللاجئين الوشيكة.
وعلى
الرغم من أنها تجنبت حتى الآن دعم أي من العسكريين ولم تشارك في محادثات وقف إطلاق
النار الجارية، إلا أن مصر تجد نفسها الآن في مأزق: ليس لديها الموارد أو الرغبة في
خوض حرب، ومع ذلك فإنه لا يمكنها تحمل تجاهل الوضع بعد الآن.
ويعلق
أن خيارات الاستجابة الاستراتيجية محدودة نوعا ما. ولكن من بين العديد من الخيارات
غير المرغوب فيها، فإن هناك نتيجة واحدة يمكنها على الأقل إنهاء الصراع واستعادة الحكم
المدني مع إعطاء كلا الجانبين شيئا يريده - إذا كان لدى القادة في القاهرة الشجاعة
والحكمة لمتابعة ذلك.
الخيار
الأول: دعم القوات المسلحة السودانية عسكريا
موقف
مصر تجاه القوات المسلحة السودانية معقد: فهي حذرة من النزعات الإسلامية لقيادة القوات
المسلحة السودانية، ومع ذلك، فإنه نظرا لقضايا القوات المسلحة السودانية الخاصة مع إثيوبيا،
ترى مصر أنها حليف سياسي حاسم في نزاعها حول سد النهضة الإثيوبي، الأمر الذي يهدد بتعطيل
مصالح مصر الاستراتيجية المائية والقطاع الزراعي الهش. وعلى الرغم من أن مصر تدعم سياسيا
القوات المسلحة السودانية كممثل معترف به للدولة السودانية، فإن دعمها العسكري الرسمي
لها اقتصر حتى الآن على تدريب القوات.
ومع
ذلك، فإنه حتى لو أرادت مصر أن تبذل قصارى جهدها في دعم القوات المسلحة السودانية، فإنها
لا تستطيع بشكل واقعي تحمل ذلك. علاوة على ذلك، يتمتع الجيش التقليدي في مصر بسجل حافل
ضعيف ضد المليشيات القبلية التي تقاتل على أرضه ومن المحتمل ألا يكون أفضل حالا ضد
مليشيات قبلية جيدة التسليح والتمويل الجيد ومدربة على حرب العصابات وحرب المدن -
مثل قوات الدعم السريع. قد يفضح التدخل العسكري المباشر حالة القتال الضعيفة للجيش
المصري ويصبح مستنقعا مهينا لقيادة الدولة والجيش.
بالإضافة
إلى ذلك، فإن الدعم العسكري للقوات المسلحة السودانية من شأنه أن يضع مصر في صراع مباشر
مع قوات الدعم السريع - المليشيا المفضلة لدولة الإمارات. وبدون الاستثمارات السعودية
والقطرية الموعودة، فإن الإمارات هي الداعم المالي الأخير لمصر في الخليج. وعلى الرغم
من علاقتهما المشحونة بخلاف ذلك، فإن مصر تحتاج إلى الدعم الإماراتي إذا أرادت البقاء ماليا.
الخيار
الثاني: دعم قوات الدعم السريع عسكريا
من الناحية
النظرية، سيكون التحالف بين مصر وقوات الدعم السريع بمثابة كابوس للقوات المسلحة السودانية،
التي ستجد نفسها فجأة محاصرة بين الهجمات العسكرية من كل من الشمال والجنوب. ومع ذلك، فإنه من الناحية العملية، لن يكون لمثل هذا التحالف سوى القليل من الفائدة لمصر، التي تعلمت
في ليبيا أنها لا تستطيع التنافس على النفوذ مع الإمارات في ميليشيا يدعمها كلاهما.
ولكن
بشكل حاسم، فإن نهاية وهزيمة القوات المسلحة السودانية من شأنهما أن يشيرا إلى الانهيار
النهائي للدولة السودانية مع عدم وجود أحد قادر على إعادة بنائها على المدى القصير
إلى المتوسط، فسوف تقع تلك المهمة الضخمة على أكتاف قوات الدعم السريع غير المؤهلة.
مثل هذا الانهيار سيعني انهيارا كاملا في كل مستوى من مستويات الأمن السوداني، بما
في ذلك الانهيار المكافئ والفوري لاقتصاد البلاد.
الخيار
الثالث: الاستمرار في عدم فعل شيء
نظرا
لتعقيد الوضع وغموض خياراتها، اختارت مصر حتى الآن استراتيجية "الانتظار والترقب".
في حين أنه يبدو نهجا حكيما في الوقت الحالي، إلا أن حكمته طويلة المدى تعتمد كليا
على متغيرين غير معروفين: مدة الصراع ومن ينتصر. لأغراض مصر، فإن فوز القوات المسلحة
السودانية هو الخيار الأفضل، ولكن فقط إذا تمكنت من إنهاء الصراع بسرعة، لأن كل يوم
إضافي من القتال يزيد الضغط على مصر في ما يتعلق بتدفق اللاجئين والاستقرار الاقتصادي.
من ناحية
أخرى، فإن انتصار قوات الدعم السريع غير مقبول لمصر لعدة أسباب. ستجد مصر نفسها محاطة
بالمليشيات المتحالفة مع الإمارات على حدودها الشرقية والغربية والجنوبية. وإذا سيطرت
قوات الدعم السريع المدعومة من الإمارات على السودان، فإن مصالح مصر المتعلقة بأمن
مياه النيل ستقع أكثر تحت تأثير الإمارات، التي لديها أصلا استثمارات زراعية في إثيوبيا
ورفضت مرارا الوقوف إلى جانب مصر بشأن مخاوفها.
الخيار
الرابع: دعم وقف إطلاق النار بين الطرفين (لا أحد ينتصر)
في هذا
السيناريو، بدلا من استعادة الحكم المدني الديمقراطي، ستنضم مصر إلى جوقة الأصوات التي
تدفع ببساطة لإنهاء الصراع العسكري من خلال الدعوة إلى مفاوضات السلام بين القوات المسلحة
السودانية وقوات الدعم السريع ودعمها، كما هو الحال مع مبادرة وقف إطلاق النار الأمريكية
السعودية. ومع ذلك، فإنه نظرا لانعدام الثقة بين طرفي هذا الصراع، فإن التعايش وتقاسم السلطة
في نفس الحكومة سيكون أمرا صعبا. من المحتمل أن يؤدي أي اتفاق لوقف إطلاق النار إلى
سودان أكثر انقساما واستبدادا، مع سيطرة قوات الدعم السريع على الغرب الغني بالذهب
وقواعد سلطته الأخرى، بينما تسيطر القوات المسلحة السودانية على الخرطوم والمناطق المتبقية.
حتى
لو أعطت مصر الأولوية لهذا النهج، فإنه من غير المرجح أن تنجح حيث فشلت السعودية والولايات
المتحدة. لا يمكن لقوات الدعم السريع أن تثق بمصر كوسيط نزيه بالنظر إلى دعمها السياسي
لخصمها، ولن تكون القوات المسلحة السودانية - التي تعرف مصر بحاجة إليها - متحمسة للاستجابة
لأي ضغوط من الوسطاء المصريين.. كما أن مجرد وقف إطلاق النار لن يفعل شيئا لمعالجة
أزمة اللاجئين.
الخيار
الخامس: الوقوف إلى جانب الأطراف المدنية
وهذا
لا يترك لمصر سوى خيار واحد آخر: سيكون عليها أن تصبح البطل غير المتوقع للأحزاب المدنية
والديمقراطية في السودان وأن تطالب بوجودها في جميع المفاوضات المستقبلية. سيسمح هذا
التزاوج بين المصالح السياسية لمصر بتجنب انتقاء الأطراف بشكل صريح مع توفير مساحة
أكبر للمناورة السياسية في كل من المحادثات والسياق الجيوسياسي الأوسع.
بالنسبة
للأحزاب الديمقراطية السودانية، فإن التحالف مع مصر ليس مثاليا، لكنه التحالف الوحيد
الذي من المرجح أن تقدمه أي قوة إقليمية، يحتاجون إلى دعمها بشدة.. حيث يمكن لمصر أن
تستخدم ثقلها الجيوسياسي ونفوذها الإعلامي الإقليمي القوي لتوليد نفوذ للشعب السوداني
على المسرح الدولي.
إن قضية
الإدماج المدني هنا ليست مجرد قضية أخلاقية، إنها ضرورية لأي قدر ضئيل من الاستقرار
في مستقبل السودان. السودان موطن لكثير من القبائل والمليشيات المحلية التي ليست مسلحة
فقط بل إنها كذلك مدربة على القتال. لن تقبل تلك القبائل ديكتاتورية عسكرية أخرى تحكمها من الخرطوم،
سواء كانت تديرها القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع، ولن تقبل أي اتفاق
يقسم بلادهم بين الاثنين. يحتاج السودان إلى الموافقة العامة على أي اتفاق حتى يتم
عقده، وهو أمر لا يمتلكه أي من الطرفين حاليا ولا يمكنه ضمانه في المستقبل دون إشراك
المدنيين.
قد يبدو
أحد الأمثلة على مثل هذه التسويات شيئا كالآتي: من شأن اتفاقية جديدة أن تدفع باتجاه
تشكيل حكومة انتقالية مدنية "وحدة وطنية" مدتها 18 شهرا والتي يجب أن تشمل
كلا من الأطراف التي وقعت على اتفاق الإطار البائد وتلك التي لم توقع، وكذلك أعضاء
في الحزب الحاكم السابق المخلوع، حزب المؤتمر الوطني الإسلامي. ولكي ينجح ذلك، فإنه يجب
منح كل من قيادة القوات المسلحة السودانية وقيادة الدعم السريع حصانة من المقاضاة وحماية
مصالحهم الاقتصادية مقابل ترك مناصبهم وحياتهم العامة إلى أجل غير مسمى. ستوافق القوتان
العسكريتان على إلقاء أسلحتهما والعودة إلى ثكناتهما.
ستُمنح
قوات الدعم السريع 10 سنوات للاندماج مع الجيش، كما أرادت في الأصل، ولكن سيتعين عليها
التعهد بدفع نسبة كبيرة - مثلا 25% - من عائداتها السنوية من الذهب لمدة 12 عاما لصندوق
ستستخدمه الحكومة المدنية لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة وتقديم تعويضات للعائلات
المتضررة من
النزاع.
من جانبها،
ستوافق القوات المسلحة السودانية على إشراف مدني على الميزانية الرسمية للجيش من قبل
الحكومة المنتخبة المقبلة. كما أنه سيتعين عليها دعم إصلاح وإعادة بناء الشرطة والقضاء
من قبل الدولة المدنية، التي سيكون لها السيطرة النهائية على كل من مؤسسات الدولة.
ولمنع
نشوب صراع في المستقبل، فإن الاتحاد الأفريقي سيوفر قوات حفظ السلام أثناء المفاوضات وحتى
إجراء الانتخابات حتى تصبح قوة الشرطة السودانية الجديدة قادرة على تولي الأمن الداخلي.
عندما يأتي ذلك اليوم، ستفرج الدول والمؤسسات الغربية أخيرا عن جميع المساعدات المالية
والدبلوماسية التي وعدت بها السودان للحكومة المدنية، ولكنها لم تقدم في الواقع أبدا،
لدعم إعادة بناء البلد المدمر.
مثل
هذا الإطار ليس مثاليا. سيكون الأمر مثيرا للجدل إلى حد كبير بالنسبة للأحزاب الديمقراطية
المدنية، ليس فقط لأنه يسمح للجنرالات المجرمين والإبادة الجماعية بالتمتع بالحصانة
ومعظم المكاسب غير المشروعة، ولكن أيضا لضم حزب المؤتمر الوطني المخلوع. ومع ذلك، فإنه إذا
تم إبقاء حزب المؤتمر الوطني بعيدا، فسوف يستفيد من عدم استقرار المرحلة الانتقالية
لصالحه السياسي ويمكن أن يستعيد الحكومة بشكل واقعي في الانتخابات التالية، أي إذا
لم يبدأ نزاعا آخر حول استبعاده. وإن إبقاء حزب المؤتمر الوطني كجزء من الحوار الوطني
هو أفضل طريقة لاحتوائه؛ كما رأينا مع القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع،
عندما يتوقف الحديث يبدأ القتال.
من شأن
هذه الاتفاقية أن تؤجل المشاكل بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية
10 سنوات بدلا من حلها، ولكن نظرا لأنه لا يمكن حلها حاليا دون التسبب بعدد كبير من
القتلى، فإن هذه على الأقل نتيجة ممكنة. وستمنح فترة تكامل قوات الدعم السريع التي تبلغ
10 سنوات للحكومة المدنية الوقت لبناء وتعزيز مؤسساتها وأجهزتها الأمنية الداخلية بشكل
منفصل عن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ما يخلق دولة رادعة ضد الأعمال
العدائية في المستقبل. من جانب آخر، فإنها ستتم موازنة الجيش الإسلامي من قبل قوى أخرى وسيتم
احتواؤه في مؤسسة دولة واحدة، بدلا من وجوده الحالي في جميع أنحاء الدولة. ونأمل أن
يؤدي انتهاء القتال وبدء إعادة البناء تحت إشراف قوات حفظ السلام إلى عودة اللاجئين.
بالنسبة
لمصر، فقد تعني هذه النتيجة أن قوات الدعم السريع لا تسيطر على حدودها، وأن مؤسسات الدولة
السودانية ستنجو، وستتجنب مصر استعداء الإمارات سياسيا بشكل أكبر أو تكليف أي قوات
بالقتال.