مفهوم المواطنة ما بين وثيقة المدينة والدولة الحديثة:
من المعلومات التقليدية التي احتواها جهازنا المعرفي عن مفهوم
الدولة، أنها
تعاريف طوباوية ليست حقيقية عند التطبيق. ومن هذه التعاريف أن الدولة هي عقد
اجتماعي يُتفق عليه في الأمة لتقوم هذه الدولة من خلال تفويضها بمهام خدمة المواطن
بالنيابة، كوظيفة بعلاقة تبادلية تعطي بعض الصلاحيات لحفظ النظام وتضارب المصالح
من خلال قوى تسمى القوة الأمنية؛ كشرطة لحماية الداخل وجيش لحماية الحدود للدولة
الوستفالية، أو لما عرف قبلها للتوسع وجلب الغنائم أو الدفاع عن البلاد المشمولة
بالنفوذ من الطامعين. هذا بكل تبسيط مفهوم الدولة بشكل عام.
وان أردنا أن نفهم معناها بالنسبة للإسلام، فهي تراتيب إدارية تتوسع وتتقلص
وفق الحاجة وإدارة الموارد مع حاجات الناس، وبرأس منتخب فعلا وليس مختارا كما في
الديمقراطية. ولكن معالم هذا الانتخاب لم تتبلور جيدا، فقد حصلت الفتنة لتتحول
الدولة إلى مَلَكية، تاركة أثر الرسول ﷺ في تحديد أول وثيقة تؤسس لمفهوم المواطنة
الذي لم يحافظ عليه تماما؛ بتغلب النبرة القبلية مع الملكية الأموية والعباسية وما
تلاها من حكم السلاطين، الذين لم يراجعوا بل لم يسمحوا بالمراجعة، حتى عندما اعتكف
معاوية بن يزيد ناكرا أن يكون هو الخليفة الشرعي لمجرد انه ابن يزيد، الذي مات
موتا غامضا تاريخيا لتنتقل السلطة إلى البيت المرواني، فكانت دولة بمواصفات عالية
عند عبد الملك بن مروان.
الخطأ الذي نفسر به ما يحدث في الحداثة من تقلبات تصل لصناعة حرب هنا وهناك أو حرب عالمية كبرى؛ هو جهازنا المعرفي الذي ينسب السلوك إلى الأخلاق بافتراض التطابق؛ بيد أن السلوك ليس الأخلاق، لأن السلوك فعل على الأرض والأخلاق قيمة
وثيقة المدينة تمثل حالة متطورة من المواطنة التي تثبت العلاقات وحقوق
المواطنين بينهم وبعضهم وبينهم وبين الحاكم الذي بويع حينها، وهو رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكان يتصرف في الحكم كأي بشر.
مفهوم المواطنة في الغرب لم يك واضحا بعد النهضة، لكنه اتخذ شكلا ليس
متعاملا في الحقوق فحسب بل إن المواطن هو صنيعة الدولة (وهذا الوصف أتى دقيقا من
الدكتور وائل حلاق)، فالمواطن محدد بقوانين الدولة حتى في طريقة تعبيره عن رأيه، وإن
أي خروج عن هذا النمط يعني أنه خارج عن القانون مهما كان. وأقرب الأمثلة هو رئيس
الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب ومحاكمته، وهذا ليس من باب العدالة وإنما
خروج عن النمط أو لإقرار مصلحة ما لأصحاب المصالح.
الخطأ الذي نفسر به ما يحدث في
الحداثة من تقلبات تصل لصناعة حرب هنا وهناك أو
حرب عالمية كبرى؛ هو جهازنا المعرفي الذي ينسب السلوك إلى الأخلاق بافتراض
التطابق؛ بيد أن السلوك ليس الأخلاق، لأن السلوك فعل على الأرض والأخلاق قيمة.
وناقشنا الفرق في
مقال سابق، فالدولة
الحداثية بمفهومها المختلف نشأت مع ثورة التنمية (development) التي سميت بالنهضة (Renaissance). فالنهضة أساسا ينبغي أن تقوم على أسس فكرية حضارية، بينما
التنمية تقوم على جوانب التطور المدني، فهي احتاجت إلى المواد الأولية من مصادرها
فذهبت لاستعمار مناطق.
وما يعرف من تفاصيل في هذا الأمر، فإن أساسها خال من قيم أخلاقية ما عدا
قيمة النفعية التي ما زالت تحكم الحداثة وتتحكم بالسلوك حتى تبدو ثقافة مجتمع وهي لم
تعد بمكارم الأخلاق، بيد أننا نجد تمردا إيجابي عليها في ظهور ردود فعل إنسانية، أو
سلبية نلاحظها في عالم التشرد والجريمة ومراوغة الدولة وقوانينها.
محاولة مواءمة الحداثة الحالية مع الإسلام، مع الاحتفاظ بقوانين الحداثة، هو أمر كمواءمة حصلت سابقا بين الفلسفة اليونانية الوثنية بنظرية الفيض وبين الإسلام التوحيدي، وكانت إحدى مشوهات التفسير وظهور شريعة تكاد تشوه الإسلام ومقاصده عبر التاريخ
وربما يستنكر مستنكر أن ما يراه في الغرب مراعاة للإنسان، فإن هذا منطلقه
فلسفة النفعية وضرورات استقرار الحياة لنمو المدنية، وهذا يتضح بعنصرية معاملة
"الآخر" اليوم في الغرب.
الموائمة المشوهة للحضارة الفكرية
محاولة مواءمة الحداثة الحالية مع الإسلام، مع الاحتفاظ بقوانين الحداثة، هو
أمر كمواءمة حصلت سابقا بين الفلسفة اليونانية الوثنية بنظرية الفيض وبين الإسلام
التوحيدي، وكانت إحدى مشوهات التفسير وظهور شريعة تكاد تشوه الإسلام ومقاصده عبر
التاريخ، إلى أن ظهر فكر المقاصد وهو محاولة للتخلص من القيود التي باتت مقدسة في
الاجتهادات، وظهور مصطلحات تؤطر شيئا لا يؤطر بمعنى التقييد، كالفكر الإسلامي
العالمي والعابر للزمكان، ولكن لم ينفضه لاستمرار مجاملة المنقول. وهنا نجد محاولة
تقريب بين لا جذور الحداثة وجذور الفكر الإسلامي، وبين لا أخلاقية الحداثة الحالية
والمرتكزة على النفعية، وبين منظومة قيمية أخلاقية تعتمد على الإنسان المالك
للأهلية التي فُقدت مع تشويه الإسلام ونظام الحكم، فأصبح الإنسان في عالمنا بلا
أهلية ومسلوب الإرادة لكل من حكم من خلال تشريع ولاية المتغلب وهيمنة المؤسسة
الدينية.
أين المشكلة:
المشكلة أساسا بدأت بطريقة نقل الغرب للمدنية ومحاولة إنكار دور العرب
والمسلمين فيها، فنقلها بلا ثقافة بيئتها مع مجموعة من الأكاذيب في المراجع لتثبيت
هذا. المدنية تراكم للجهد البشري تنتقل وتتطور، ولا يمكن أن تكون بلا أطر أو تتطور
وهي نائمة.
والحداثة كانت فكرية منذ مجيء الرسالة الإسلامية ونشوء ما نسميه اليوم بنظام
الدولة القائم على القيم والشريعة، هذا النظام طور صيغ الدولة وأسس لها بشكل واضح
وجدول العلوم وارتقى بها، لكن الغرب عندما أخذها؛ أخذها منزوعة من القيم المضافة إلا
ما علق بها ولا يمكن التخلص منه، وهو ما جنّد في النفعية إلى تصرفات سلوكية. أما
عندما انتقلت إلى الولايات المتحدة فكان عزلا آخر مع الغرب نفسه، لتتوالد سلوكيات
مرتبطة بسطوة القانون وقوته وتمجيد الدولة والرضا بسيادتها، حتى وأنت تحتج على أي
شيء وتعود إلى بيتك لتنام بسلام أو ترفض كل هذا وتكون في الشارع مشردا عرضة للممنوعات
ومساءلة القانون في أي وقت، القانون الفصل الذي متى ما حصلت الفوضى أصبحت السلوكية
الواضحة بلا قانون أو السلوك بلا إنسانية عندما يبيح لك القانون قتل أي مصدر للخطر.
نحن أمة لديها كل مقومات قيادة نهضة عالمية بلا حروب أو إسقاطات فشل الحداثة التي تحتضر؛ وليست قائمة إلا لفقدان البديل ولن تطيل عمرها حرب كونية أخرى
عزل الحداثة عن جذورها الإسلامية هو عزلها عن منظومة قيمية ونظام تكافلي حسي
وعقد اجتماعي، وليس سيادة السلطة الظاهرة أو الباطنة متمثلة بأصحاب المصالح الذين
سماهم لينين الرأسماليين.
كيف يمكن للحركات الإسلامية أن تتماهى مع هذا؟ لا يمكن طبعا فتقول إن
الديمقراطية ليست الطريق! الحقيقة أن المشكلة ليست في الديمقراطية فهي آلية، لكن
المشكلة في فهم معنى الدولة الحديثة الطوباوي عند الإسلاميين، ومزج القيم مع
منافسين لا يتعاملون بها فتكون واهية من السهل فيها انتزاع السلطة من قبل أي مغامر
أو مجنون.
إننا بحاجة إلى حكام ونظام ذي أهلية يفهم معنى الإسلام، ينظر إلى الأمام لا
الخلف وفي سقطات التاريخ، وفتح مثاني القرآن (طياته) للبحث عن قيادة واقعنا
واختيار الناس وفق معايير سليمة؛ وليس وفق معايير جعلتنا أمام العالم بموقف العبد
الثري الذي يشتري له سيدا يرأف به. ونحن أمة لديها كل مقومات قيادة نهضة عالمية
بلا حروب أو إسقاطات فشل الحداثة التي تحتضر؛ وليست قائمة إلا لفقدان البديل ولن
تطيل عمرها حرب كونية أخرى.