كلمني وهو غاضب على إثر خسارة
المغرب أمام فرنسا، أخذ ينظر
لي والدموع تقفز من عينيه، لقد لعبنا مباراة عظيمة أفضل كثيرا من المنتخب الفرنسي..
لقد دعونا الله كثيرا لكننا خسرنا في النهاية!!
قال لي أتعلم أن محطة تلفزيونية سخرت من مشهد سجود لاعبي المنتخب المغربي بداية المباراة،
وقالت تعليقا على مشهد السجود: "يبدو أن العناية الإلهية غابت عن الملعب"؟..
قلت له لن أقول لك إنه كان هناك تواطؤ من الحَكم كما شاهدنا
جميعا، ولكني سأدع شخصا آخر يجيب عن سؤالك لماذا خسرنا..
قال لي: من؟!
قلت له: الخَضِر!!
نظر لي فارغا فاهه:
الخضر!!!
قلت له نعم.. لكن عدني ألا تقاطعني إلا لو طلبت منك
ذلك.
قال لي بنظرات تجمع بين الاستغراب والاستنكار: حاضر.
قلت له إجابة سؤالك في النهاية لن تجدها تفيدك في تحليل
رياضي فحسب، بل ستكون ميلادا لحياة جديدة لحياتك كلها.. أعدك بذلك إذا أصغيت وفقهت
الدرس جيدا...
قال لي وقد بدأ صبره ينفد: ادخل في الموضوع مباشرة..
نظرت إليه مبتسما وقلت له: حاضر.. هيّا بنا.
قصة الخضر
هي باختصار قصة
القدر الذي يجريه الله علينا في هذه الحياة، خاصة الذي ظاهره شرّ أو
ابتلاء صعب مرهق.
الخضر هو "قدر الله الغالب"، حاولْ أن
تستوعب تلك الكلمة لأنها السر الأعظم.
الخضر وصفه الله بثلاث صفات عظيمة: عبد لله، والرحمة والعلم.
تقول الآية: "فَوَجَدَا عَبۡدا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَة مِّنۡ
عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡما" (الكهف: 65-65).
يعلمنا الخضر أو الله في الحقيقة أن القدر نوعان: نوع ظاهره شر ومعاناة ونوع ثان اسمه "اللطف الخفي"
عليك الآن أن تنظر للصورة من داخلها وليس من خارجها.. قاطعني
قائلا: ماذا تقصد؟!
قلت له عادة حين نقرأ القصة ننظر إليها بعقل المشاهد
أو المتابع.. لكني أريدك أن تضع نفسك مكان أصحاب السفينة ومكان والديّ الغلام
القتيل ومكان الطفلين اليتيمين.. إذا لم تفعل ذلك فلن تفهم السر أبدا.
يُعلّم الخضر، الذي هو قدر الله في صورة بشر، سيدنا
موسى والإنسانية كلها من بعده السر الأعظم في الحياة..
تخيل معي رجلا وصفه الله ذاته بأنه أعطاه "رحمة
من عندنا" يتحول إلى قاتل ومفسد في الأرض بلغة عصرنا!!
قال لي والحيرة تملأ عينيه: لقد أربكتني!!
قلت له: اصبر قليلا..
في القصة المذهلة يعلمنا الخضر أو الله في الحقيقة أن القدر
نوعان: نوع ظاهره شر ومعاناة ونوع ثان اسمه "اللطف الخفي".
النوع الأول ينقسم إلى نوعين فرعيين نوع تظهر لك حكمته
في النهاية والنوع الآخر لا تظهر حكمته أبدا إلا يوم القيامة إن شاء.. أما "اللطف
الخفي" فهو لا تشعر به أصلا.. لذلك هو خفي.
قال لي بأعصاب
مشدودة: وضّح أكثر.
قلت له تخيل نفسك مكان أصحاب السفينة حين خرقها ودخول الماء
إليها وهي مصدر رزقهم الوحيد.. تخيل نفسك مكانهم وهم يصرخون ويبكون ويحاولون إنقاذ
الوضع.. تخيل نفسك مكان أحد "المساكين" وقد عدت إلى بيتك وزوجتك وأنت
تسب وتلعن في هذا ال... الذي خرق السفينة.. تخيل الحوار والضغط العصبي الذي عاشوه
حزنا على سفينتهم التي أصبحت معيوبة!!
لكن بعد فترة من الزمن لم يخبرنا الله بها.. يعرفون أن
ما حدث لهم كان سبب نجاتهم من الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصبا، وأن الرجل
الذي قد يكون بعضهم أمطروه بالسباب هو في الحقيقة منقذهم!!!
إنه النوع الأول، قدر ظاهره شر وابتلاء عظيم ثم تبدو
لك في النهاية حكمته.
تخيل نفسك الآن مكان والد أو والدة الغلام القتيل.. تخيل
نفسك مكان أمه وهي تمسك به بين يديها مضرجا بدمائه وهي تصرخ من أعمق أعماق قلبها حزنا
على فلذة كبدها.. تخيلها وهي تلتحف بالسواد وتتذكر لحظاتها الجميلة مع طفلها وهي تبكي
عليه.. تخيل والده وهو يضعه في قبره ويأخذ عزاءه.. صورة موغلة في الحزن، بلاء عظيم..
غلام قتيل بلا سبب وقاتل لا يعلمه أحد، وأب بكل تأكيد يبحث عن الثأر لابنه!!
وتمضي الأيام والشهور وربما السنين حتى يرزقا بطفل آخر:
"فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ
رُحۡما" (الكهف: 81).
هل علما أن طفلهما القتيل لو عاش كان سيكون سبب
شقائهما في هذه الحياة؟ "فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنا وَكُفۡرا"
(الكهف: 80).
لا لم يعلما.. لم يخبرهم أحد بذلك.. نحن فقط من علمنا
الحكمة بعد آلاف السنين من كتاب الله.. لقد عاشا بلاء الفقد كاملا وسرى قدر الله
عليهم دون معرفتهم بالحكمة أو القاتل، وربما عاشوا السنين الطوال يتذكرون ويتخيلون
طفلهم القتيل وقد كبر وتزوج وظنوا أنه سبب سعادتهم!!!
وهذا هو النوع الثاني قدر الله الغالب والبلاء الشديد
الذي لا تظهر حكمته لصاحب الابتلاء في الدنيا.
أخيرا "لطف الله الخفي" لقد بنى الخضر الجدار
حفاظا على الكنز المدفون للغلامين اليتيمين.. لقد كبرا وأخذا الكنز لكنهما لم يعلما
قصة الخضر وموسى معهما، لقد تدخل قدر الله في لطف وخفاء.. فقد كبرا واستخرجا كنزهما
لكنهما لم يعلما أن عبدا صالحا ونبيا كريما هما من حفظا لهما كنزهما!!
"الرضا عن الله في كل حال والاستسلام الكامل لما يفعله بك"، سواء ظهرت حكمة بلائه أم لم تظهر.. إن كل أفعاله خير لك.. هذه هي الحقيقة المؤكدة التي تصرخ بها كل آية في قصة السر الأعظم.. قصة القدر والبلاء
الأمر أشبه بطفلك الرضيع الذي ينام بجوارك على
السرير.. فجأة ينقلب من جانب إلى جانب يهم بالسقوط على الأرض وهو نائم ولكنك تمسك
به وتعيده إلى مكانه وهو نائم، ويستيقظ ولا يعلم أي شيء عن "لطف الله الخفي"
الذي أنقذه بيد والده.
قال لي: تفسير جميل، ولكن اعذرني كيف أستفيد منه؟
قلت له مبتسما كلمتين: "الرضا عن الله في كل حال والاستسلام
الكامل لما يفعله بك"، سواء ظهرت حكمة بلائه أم لم تظهر.. إن كل أفعاله خير
لك.. هذه هي الحقيقة المؤكدة التي تصرخ بها كل آية في قصة السر الأعظم.. قصة القدر
والبلاء.
استسلم.. تسلم.
قال لي محرجا: ولكن لماذا خسرنا المباراة؟!
قلت له ستجد من يبحث عن عشرات التحليلات وقد يكون
بعضها صحيحا وقد تكون هناك أخطاء تحتاج إلى تصحيح، ولكنك كمشاهد المطلوب منك الثقة
بالله والاستسلام له على كل حال...
ولا تنس سر النجاة:
- "فكان أبواه مؤمنين".
- "وكان أبوهما صالحا".