مقالات مختارة

عندما يُرفع الرأس بكرة القدم…

1300x600
كلما كان الإحباط أكبر عظَمت أهمية التعويض عنه معنوياً: إنها لقاعدة بديهية في سلوك الطبائع الإنسانية أنه كلما ازدادت الهزائم لدى جماعة بشرية في الأمور الأساسية، كبَر لديها شأن الانتصارات التي يتمكن بعض أعضائها من تحقيقها في أمور أقل أهمية. هكذا أصبح انتصار منتخب المغرب على فريق البرتغال في مباريات كرة القدم تعويضاً معنوياً عن الإحباطات المتراكمة في شأن القضية الفلسطينية، وذلك بمجرّد رفع الفريق المنتصر لعلم فلسطين. إنها لبادرة رائعة بلا شك، لكن ما زاد من بريقها بالتأكيد هو أنها أتت على خلفية مسار متواصل من الهزائم في المعركة الفعلية ضد العدو الصهيوني.

وكأن «أسود الأطلس» قد عوّضوا شيئاً ما في وجداننا عن الجرائم التي يرتكبها الجيش الصهيوني هذه الأيام بحق أبطال «عرين الأسود» في نابلس! وعلى هذا المنوال، فإن انتصار منتخب المغرب على منتخب فرنسا مساء الأربعاء، لو حدث، سوف يكون بمثابة تعويض رمزي عن الماضي الاستعماري الذي فرضه البلد الثاني على البلد الأول، إن لم يشكّل تعويضاً رمزياً عن ماضي الهيمنة التي فرضها الاستعمار الأوروبي برمّته على المنطقة الناطقة بالعربية بأسرها، علاوة على أفريقيا جمعاء! فكيف لا تعود إلى أذهاننا قصيدة المتنبي التي اشتهر بيتاها الأولان: «عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ / وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ / وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها / وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ»؟

لا نقول ذلك للتقليل من شأن ما حققه المنتخب المغربي، وهو حقاً إنجاز عظيم في الحقل الرياضي، وفي تاريخ مباريات كرة القدم على وجه الخصوص. لكن حقل كرة القدم برمّته الذي عظَم شأنه في أعيننا في ضوء الإنجاز المغربي، إنما هو من صغائر الأمور إذا ما قيس بمصائبنا العظيمة، التي لا تنفك تتراكم: إحباطات متتالية تصيب الانتفاضات الشعبية بينما يستمر الانحدار في وضع الشعوب المعيشي، وأنظمة تمارس إزاء شعوبها شراسة أكبر مما تشهده الحروب بين أمم متخاصمة، وأنظمة تتبارى في التودّد للحكم الصهيوني، بل لأسوأ حكومة في تاريخ الصهيونية المليء بالمساوئ. والجدير بالذكر أن العرش المغربي هو أحد الأنظمة الداخلة في هذه المباراة الأخيرة، وقد زاد هذا الأمر كثيراً من مغزى رفع المنتخب المغربي للعلم الفلسطيني في قطر.

فالتاريخ يكرر نفسه: أتذكّر وكأنه الأمس ما حصل قبل أربعين عاماً بالتحديد، أي في عام 1982، عندما كنا في بيروت يحاصرها الجيش الصهيوني وقد اشتعلت سماء المدينة برصاص الابتهاج للانتصار الذي حققته الجزائر في مباريات كأس العالم على ألمانيا الغربية، بطلة المباريات الأوروبية في تلك السنة. كان ذلك قبل أيام من تآمر المنتخب الألماني مع منتخب النمسا كي يبقى الفريقان في المباريات على حساب الجزائر، وهي إحدى أبشع الفضائح في تاريخ كرة القدم، بل ربما الأبشع على الإطلاق لو استثنينا الفضائح المالية. أما لحظة انتصار منتخب الجزائر، فقد جاءت وكأنها تعويض معنوي عن وصول الجيش الصهيوني إلى مشارف مدينتنا، وهي المرة الأولى والوحيدة حتى الآن التي وصل فيها ذلك الجيش إلى مشارف عاصمة عربية، ثم اجتاحها.

بيد أن فوز المنتخب المغربي على فريق البرتغال كان له في الحقيقة، هذه المرة، بعدٌ تعدّى الرمزية إلى الفعل السياسي. فقد كان مناسبة أثبتت من خلالها جماهير المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج أنها تعارض الأنظمة القائمة، وأن هذه الأخيرة لا تمثّلها على الإطلاق.

وقد تكاثرت في وسائل الإعلام العالمي التعليقات التي أشارت إلى أن ما ثبَت من خلال ذلك الحدث الرياضي، كما من خلال سلوك الأنصار الآتين إلى قطر من شتى بلدان المنطقة، إنما هو أن فجوةً عميقة تفصل حكام المنطقة العربية عن شعوبها. فبينما تتوسع دائرة التودّد بين الحكم الصهيوني وأولئك، حكام مصر والأردن والإمارات والبحرين وعُمان والسودان والمغرب، والقائمة لا تني تطول، ما زالت الشعوب العربية تفصح عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني وسخطها إزاء الدولة الصهيونية.

في زمن لم يعد يشهد تظاهرات شعبية كبرى كالتي عرفتها المنطقة حول قضية فلسطين في القرن المنصرم، يكسب حقاً هذا الشكل البسيط من التعبير عن دعم القضية الفلسطينية دلالة فعلية ثمينة بالنسبة للمستقبل.

القدس العربي
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع