أفكَار

حينما تصنع القيم الروحية والثقافية الانتصار في حقل الرياضة

نجح مدرب المنتخب المغربي في بناء خطاب جديد يقوم على فكرة الفوز مهما كان الأداء (الأناضول)

كثيرون يعتقدون أن الرياضة حقل فني أو تقني، تخاض لاعتبارات علمية دقيقة، وأن قواعد التنافس تحسمها معطيات صارت اليوم موضوع قاعدة بيانات يجهزها الكمبيوتر من خلال تتبعه لممارسات اللاعبين، لكن، في كل الحقول الاجتماعية، التي يشكل الإنسان القاعدة الرئيسة، فإنه من الصعب الاستسلام لهذه المعطيات  التقنية، وأن هناك أبعادا أخرى لا تقل أهمية عنها، لا ينبغي إغفالها، وأن الجوانب الذهنية والقيمية كثيرا ما تكون حاسمة بشكل كبير،  بحكم أن الفريق يشكل في الجوهر بنية اجتماعية، وأن تماسك هذه البنية، وتأمين فعاليتها،  وضمان تكامل وظائفها، لا يحصل من غير تأطير فكري، وحمولة رمزية، وحالة ذهنية، وقيم ملهمة، وتلك لا توجد بالقطع في الاعتبارات التقنية التخصصية، وإنما توجد وتستمد من الثقافة ومن الوحدة الجمعية التي تشكلها، ومن الرؤية التي يتبناها كل فريق على حدة لدوره، وشكل لعبه،  وأيضا في أسلوبه في اللعب.

 

ما يؤكد ذلك أن المفاجآت التي لا تجد تفسيرها في عالم كرة القدم، والتي بمقتضاها تفوز فرق مغمورة على كبريات الفرق العالمية، أو تفوز منتخبات صغيرة على منتخبات مرشحة للفوز بكأس العالم. هذه المفاجآت، تحيل على الأبعاد القيمية والروحية، والنموذج الذهني، والرؤية، ونوع القيادة، والقيم الملهمة التي تركز عليها، ووحدة البنية، وتماسك عناصرها وتكامل وظائفها.

 

مفاجأة تأهل المنتخب المغربي.. قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية

 

هناك إجماع اليوم بين خبراء الرياضة والمختصين والإعلاميين أن المنتخب المغربي قد خلق المفاجأة، بل إن تأهله لربع النهاية، شكل الإنجاز الأكثر إثارة في كأس العالم، بحيث أصبح هذا المنتخب حديث الصحافة العالمية، وصارت كبريات الصحف العالمية، ترى أن الفريق الوطني حقق إشعاعا كبيرا للمغرب فقط في أربع مقابلات، لم يكن بإمكان الحكومات المتتالية تحقيقه في سنوات حنى ولو كان عملها محكوما بمنطق الاستمرارية والاطراد ووحدة الهدف.

 

كثيرون حاولوا أن يقرؤوا أسباب هذا الفوز، وهل يكمن في الجهد الإداري والمالي واللوجستي الذي قامت الجامعة المغربية لكرة القدم طيلة العقد الماضي، أم قرار إعفاء المدرب السابق، وحيد خاليلوزيتش وتعيين وليد الركراكي خلفا له، أم يعود إلى المدرب الجديد، أم يعود إلى الكفاءة الفنية لعدد من المحترفين الذين يلعبون في كبريات الأندية الأوربية، أم يعود إلى الجمهور، الذي أشعر المنتخب المغربي ـ بكثافة حضوره ـ كما ولو كان يلعب في مركب محمد الخامس بالدار البيضاء.

 

ما يهم في تحليل هذا الإنجاز، هي جوانب تتعلق بالأبعاد النفسية والسوسيولوجية والقيمة والحضارية، فهي في تقديري، أهم بكثير من الأبعاد الفنية والتقنية التي يهتم بها المختصون والصحفيون. وهي في التقدير أربعة أساسية: إثبات الهوية، والاندماج العائلي(العائلة)، والقيادة، والقيم الملهمة.

 

الأبعاد الهوياتية والقيمية في التركيبة السوسيولوجية للمنتخب المغربي

 

يفترض تحليل إنجاز المنتخب المغربي (التأهل لربع نهاية كأس العالم)، والذي مثل أول إنجاز عربي في كأس العالم، الانطلاق من دراسة التركيبة السوسيولوجية لهذا الفريق، والذي يتكون أغلب لاعبيه من أبناء الجالية المغربية، أو المواطنين الأوربيين ذوي الأصل المغربي، الذين ولدوا في جدول أوربا ونشأوا بها.

 

التركيبة السوسيولوجية للمنتخب المغربي، تقول أشياء كثيرة، فأغلب هؤلاء ولدوا في دول أوربا، وينحدرون من عائلات مهاجرة (المغاربة المقيمون بالخارج)، وينتمي أغلبهم إلى أوساط جد فقيرة، لم توفر لهم إلا الحد الأدنى من العيش.

 

يمكن أن يلاحظ على أغلب هؤلاء طابع التدين، على خلاف أجيال سابقة، لم يكن التدين جزءا أساسيا من هويتهم، لكنه في الواقع تدين مغربي موروث عن الآباء، لا علاقة له بتدين جماعات الإسلام السياسي.

 

ثمة معطى آخر، يزيد هذه التركيبة السوسيولوجية وضوحا، يتعلق بمسار الارتقاء الكروي، والكيفية التي وصلوا بها إلى كبرى الأندية الأوربية، والتي اتسمت بطابع التحدي وإثبات الذات وتجاوز العقبات العنصرية، ومواجهة قرارات غير عادلة من مدربين أوربيين.

 

تجتمع هذه المعطيات السوسيولوجية، لتبني صورة عن نخبة مغربية في الخارج، عاشت شتى صنوف الحرمان والإقصاء الاجتماعي، واحتمت بقيم عائلاتها المغربية التقليدية، واتسم مسارها بمواجهة العراقيل والعوائق غير الموضوعية لبناء بروفايل رياضي يكثر عليه الطلب من قبل كبريات الأندية الأوربية.

 

مدخل الهوية يعتبر عنصرا أساسيا في فهم نفسية وعقلية هذه النخبة المغربية التي أضحت تشكل أغلبية المنتخب المغربي، لكن ليس بالمعنى الثقافي فقط، أي النخبة المتحلية بثقافتها، المتشبثة بقيمها ووطنها، بل الهوية بوصفها عنصر ارتكاز في إثبات الذات، وفي التحدي، وفي مواجهة ثقافة الاستصغار والعنصرية والإقصاء الصادرة التي عانوا منها في دول أوربا.

 

لماذا تم التركيز في الخطاب الإعلامي للمنتخب على العائلة؟

 

ينبغي أن نلتفت إلى معطى جديد لم يكن أبدا حاضرا من قبل في ثقافة الفريق الوطني. الحديث عن العائلة، ليس فقط بالمعنى المعتاد الذي يطمح فيه المدرب أن يعيش الفريق مثل العائلة الموحدة المتضامنة. العائلة التي لا يضر معها أن يدخل هذا للملعب، أو يعوضه ذاك، أو أن يبقى في دكة الاحتياط، ولكن أيضا بمعنى آخر، أي حضور العائلة كهدف في تمثلات اللاعبين، وحضور الأم في الملعب، وحضور مفهوم رضا الوالدين وإسعادهما من خلال تحقيق الفوز.

 

من الكواليس التي تم تسريبها أن لقاء عقد بين الكادر التقني للفريق، وبين الجامعة المغربية لكرة القدم، والذي دار حول نقطة واحدة، وهي  اتخاذ قرار باستجلاب عائلات اللاعبين إلى الملعب،  إذ ثار خلاف حول الموضوع، لكنه في النهاية تم تبديد الخلاف بعد أن ظهرت أبعاد جديدة في  توضيح دواعي الحضور، فاتخذ القرار بضرورة حضور العائلة، ليس بقصد المتعة، كما كان الأمر من قبل، ولكن بقصد قيمي وفكري عميق، شرحه بوضوح الخطاب المكثف الذي تم استعماله من قبل الناخب المغربي، إذ  حاول أن يجعل من الأم والعائلة،  ومن رضا الوالدة، الحافز ألأساسي للعب والفوز، إذ كان بحكم تجربته كلاعب في الخارج،  المكانة التي تحتلها العائلة والأم خاصة في تمثلات اللاعبين في بلاد الغربة، وفي تكوينهم النفسي والوجداني.

 

لا نريد أن نسلط الضوء كثيرا على مفردات الخطاب الإعلامي والتواصلي الذي جاء به وليد الركراكي منذ أول مساره في التدريب مع الفتح الرباطي، ثم الوداد، فالمنتخب المغربي، فكثيرون، كانوا يعتبرونه مجرد أهبل، لا يعرف التحدث بشكل جيد بالدارجة، فيقحم أشياء لا علاقة لها بكرة القدم مثل النية، ورضا الوالدين، ولكنه في الجوهر، كان ينطلق من قاعدة نفسية وثقافية بعيدة، يخاطب بها عمق اللاعب المغربي، الذي تشكل الأم والعائلة بالنسبة إليه كل شيء.

 

العائلة بالنسبة إلى الركراكي، ليست فقط مجرد قيمة رمزية للوحدة والتضامن والانسجام، ولكنها عنصر ملهم للعب، وعمق روحي وقيمي، يحرك الوجدان الداخلي للاعب المغربي، من أجل القيام بكل ما يمكنه لتحقيق الفوز (القتال بتعبير الركراكي).

 

القيم الدينية والروحية الأساس الاستراتيجي لمنظومة الفريق

 

في التجربة الغربية، ثمة تطور مهم في اتجاه إيلاء الاهتمام بما يسمونه بالحالة الذهنية، وما تتطلبه من شروط، وتمت قناعة أنه لا يتصور نجاح من غير وحدة الفريق وانسجامه وانضباط لاعبيه، إلى درجة أن عددا من النوادي الأوربية تفرض عقوبات كبيرة على الإخلالات القيمية التي يقوم بها عدد من اللاعبين، بل إن بعض النوادي، تدخل المجال الخاص للاعب، وتفرض عليه شروطا أخلاقية، تجعلها ضمن الأساسيات، وتتفاعل بشكل سريع مما تنشره الصحافة من أخبار تخص الحياة الخاصة للاعبين، إذا تعلق الأمر لخرق هذه الأساسيات.

 

لن نتعب كثيرا إذا أردنا أن نفسر رهان الناخب المغربي على هذه القيم في بناء وحدة الفريق وتأمين تماسكه، فيكفي أن نعقد مقارنة بين الناخب السابق والناخب الحالي. الناخب السابق لم تكن تنقصه الجوانب الفنية والتقنية لبناء الفريق، وقد قام بحق بدور أساسي لتأهيل المنتخب الوطني لكأس العالم، لكن طريقته في إدارة الفريق لا تساعد في ضمان لحمته، ولا ضم الطاقات التي يمكن أن تقدم الكثير للمنتخب الوطني، فضلا عن افتراض له ما يبرره، يرى أن أجواء التشنج والإدارة العسكرية للفريق، لا يمكن أن تؤدي لنتائج على المدي البعيد.

 

هذا التقييم، كان يفترض وجود قيادة، تستطيع فعل ذلك، قيادة لا تنقصها الخلفية الفنية والتقنية، وتزيد عليها برصيد آخر، يحقق ما كانت تريده الجامعة، أي فريق موحد منسجم لا خلاف يخترقه ومدعوم من قبل كل الشعب المغربي، وفوق هذا وذاك يتمتع بقدرة قيمية وخطابية وتواصلية، تستطيع أن تضع اللاعب في مشروعه الطموح للفوز، ويتميز بصفة الواقعية.

 

قرار الجامعة بإعفاء المدرب السابق ثلاثة أشهر قبل موعد المونديال كان يبدو أشبه ما يكون بمغامرة، لكن، يظهر أن تقييم المسؤولين في الجامعة، لم يكن يرى مشكلة في الأداء والإمكانيات، بل كان ينظر إلى الجزء الفارغ من الكأس، أي الحالة الذهنية للفريق، وضرورة أن يكون المنتخب المغربي ممثلا لكل المغاربة، وأن يهيئ الرأي العام من خلال اختيار موضوعي للاعبين لدعم لا تردد فيه للمنتخب المغربي في كأس العالم.

 

كانت القيم الأساسية التي ركز عليها علبها الناخب الوطني، قيمة المصالحة واتسامح، ونسيان الماضي، والرهان على المستقبل، والثقة في اللاعبين، وإمكانية دمج الفريق كله في رؤية واحدة، تستمد عناصرها من القيم الدينية والروحية للمغاربة.

 

هذه القيادة لم تكن تنجح بدون قيم ملهمة، وهي كثيرة لا يمكن حصرها في هذا المقال، لكن سنركز على البارز منها، أي المصالحة التي بدأ بها لجمع لحمة المنتخب المغربي، حيث أديرت هذه العملية بتنسيق مع الجامعة بذكاء كبير، حتى إنهاء أجواء الصراع وتم ضم كل عناصر الفريق الوطني.

 

البعض ركز على ظاهرة السجود في الملاعب، لكن في الواقع، لا يعني السجود شيئا آخر، غير أنه يعكس واقع تدين مغربي تقليدي تم تشربه من العائلة المغربية الأصيلة، والشيء نفسه يقال عن قراءة الفاتحة، والاستعانة بالقرآن والدعاء وسجود الشكر، فهي أمور ليست جديدة على المغاربة،

ثمة قيمتان أساسيتان ركز عليهما الكراكي في بناء الحالة الذهنية للفريق: هما قيمة النية، ويعبر عنها بالدارجة المغربية ب،"دير النية" ثم "الثقة"، وهما تعنيان الكثير بالنسبة إليه، وتعنينان على الخصوص التخلص من الكابوس أو النحس الذي لم يفارق المنتخب المغربي، وتبديد التخوفات التي كانت تكبل نفسية اللاعبين، وتملأ الفضاء الصحفي بالعناوين عن قوة الفرق الأوربية أو الفرق اللاتينية، والتي كانت من غير قصد تثير حالة هزيمة تدفع اللاعبين إلى الخوف، وتدفع الجمهور والصحافة الوطنية إلى جلد الناخب والفريق.

 

النية مفهوم ديني، يعلق المستقبل والمصير بالله تعالى، والثقة مفهوم نفسي عميق، يثمن إمكانات اللاعبين، ويجعلهم واثقين بإمكانياتهم وقدرتهم على تحقيق النصر.

 

وهما معا، أي المفهوم الديني والمفهوم النفسي، يعنيان، أن النتائج التي تصنعها الصحافة العالمية بتقديراتها المبنية على المعطيات التقنية والفنية التي توفرها قاعدة البيانات الرياضية وما تضبطه الحواسيب من مهارات اللاعبين، ومدة ركضهم وعدد أهدافهم أو تسجيلاتهم الحاسمة وافتكاكهم للكرة وما إلى ذلك، كل ذلك لا يمكنه أمام "النية والثقة بالله وبالنفس" أن يشكل عائقا أو مصدر هزيمة نفسية تمنع اللاعبين من المنافسة.

 

هذه القيم الجديدة، خلقت في الواقع فريقا جديدا متحررا من عقد النص، لا يفزع من أي فريق كيف ما كان، وكيفما كانت الصورة الإعلامية المصنوعة عنه.

 

القيمة الأخرى التي ركز عليها الركراكي، هي "القتال" الجماعي، أي أن يكون الكل في خندق واحد، في الدفاع، وفي الهجوم، وألا يوجد في الفريق من ينتظر الكرة تصل إليه ليسجل الهدف، بل ينبغي أن يكون اللاعب جزءا من كل، مدافعا يسترد الكرة من الخصم، ويمررها، مع إنهاء قاعدة أن "الهداف الفريق هو وحده من يصنع الفوز".

 

خطاب للركراكي، صار اليوم موضوع تحليل من قبل المختصين في الدراسات التواصلية، لكنه في الواقع، خطاب بسيط في مفرداته، تفهمه كل شرائح المجتمع.

 

البعض ركز على ظاهرة السجود في الملاعب، لكن في الواقع، لا يعني السجود شيئا آخر، غير أنه يعكس واقع تدين مغربي تقليدي تم تشربه من العائلة المغربية الأصيلة، والشيء نفسه يقال عن قراءة الفاتحة، والاستعانة بالقرآن والدعاء وسجود الشكر، فهي أمور ليست جديدة على المغاربة، إنما الذي حصل، أن هذا المنتخب مثلها، ومثل العائلة المغربية، ومثل الوطن الذي لا يقارنه وطن آخر في تمثل هذه القيم الروحية الأصيلة.

 

الجديد في هذه القيمة، هي الحضور والبروز، ووجود الفضاء الداعم لتجلي هذه الممارسات (قطر) ووجود نخبة متدينة داخل الفريق، استطاعت أن تفرض إيقاعها، بل ووجود مدرب متدين، يراهن على إقليم الدينية والروحية في خلق الروح الجماعية للفريق.

 

المعادلة الصعبة.. التعبئة الرمزية والواقعية التقنية

 

كثيرون من الذين حللوا نتائج المنتخب المغربي، وقفوا على مفارقة دالة، فالمباراة التي جمعته بمنتخب إسبانيا أبانت نسبة استحواذ كبيرة للفريق الإسباني، أمام لجوء إلى منطف الدفاع، وكثيرون اعتبروا أن التفوق الإسباني في الملعب كان واضحا، لكن المتخصصين، رأوا شيئا آخر، إذ انتصروا للتكتيك المغربي، واعتبروا أن ما يهم في نهاية المطاف هو الفوز، وليس الاستحواذ، وأن هذا ما نجح فيه المنتخب المغربي.

 

والواقع، أن ما يثير التأمل في هذه المفارقة، هو شيء آخر، غير نجاح التكتيك، إذ القواعد الرياضية ترى دائما أن تكتيك الدفاع يتعب  الفريق المدافع أكثر مما يتعب الفريق المهاجم، وأن المرور إلى أكبر فخ يمكن أن تسقط فيه استراتيجية الدفاع هي عدم القيام بمرتدات خاطفة يحقق بها الفريق الفوز قبل المرور للأشواط الإضافية، لكن هذا التحليل في نهاية المطاف، يخضع لنفس الاعتبارات التقنية الفنية، أي دراسة قدرة الفريق على الصمود من جهة اللياقة البدنية، في حين،  كانت القاعدة التي بنى عليها المنتخب المغربي خطته تقوم فكريا على معادلة صعبة يقوم طرفها ألأول على مفهوم التعبئة الرمزية، والتي تشكل القيم الروحية والعائلية أساسها، وتقوم على طرف آخر، فكري وتقني، هو الواقعية، أي استحضار المعطيات التقنية والفنية، وأخذها بعين الاعتبار في فهم قدرات الفريقين المتنافسين وما يمكن فعله، وأفضل الخطط لتحقيق النتيجة.

النية مفهوم ديني، يعلق المستقبل والمصير بالله تعالى، والثقة مفهوم نفسي عميق، يثمن إمكانات اللاعبين، ويجعلهم واثقين بإمكانياتهم وقدرتهم على تحقيق النصر.

 

ومع أن التراكم الذي حصلته الكرة المغربية، كان يرفع دائما شعار الأداء المتميز، والفرجة والمتعة، إلا أن الركراكي بحكم خبرته في النوادي الأوروبية، سار في اتجاه آخر، اتجاه واقعي، يؤمن بأن الأساسي هو تحقيق الفوز، وأن الأداء والاستحواذ والمتعة والفرجة لا تعني شيئا أمام الهزيمة.

 

لقد نجح الركراكي أن يهزم أحد أشد الخطابات هيمنة على الفضاء الرياضي، ذلك الخطاب الذي كان يركز على الأداء، وبنى بدلا عن ذلك خطابا جديدا يقوم على فكرة الفوز مهما كان الأداء، وقد بقي متشبثا برؤيته على رغم الانتقادات التي وجهت له في مباراة المغرب ضد كرواتيا، لأنه كان يقدر أن كرواتيا أو بلجيكا أو حتى إسبانيا فرق قوية،  سيشكل اللعب المفتوح لها هدية كبيرة لها، وأن الواقعية تقتضي الإيمان بقدرات المنتخب وما يمكن فعله وما لا يمكن فعله، وهذا ما جعله يكسب في مواجهة بلجيكا وكندا،  بل وهذا بالتحديد، ما جعله ينجح في تحقيق انتصار غير متوقع على الفريق الإسباني.

 

صيغة نموذجية للنجاح في حقول مختلفة

 

بعض المختصين في الرياضة يرون أن الأمر يتعلق بمجرد مباراة لكرة القدم، وأنا لا تعني الكثير، سوى المتعة والفرح والفرجة،  وأن الخطأ يلازم التحليلات التي تريد أن تحمل كرة القدم أكثر مما تتحمل، لكن،  إذا صح هذا الرأي من  إحدى الزوايا، فإنه لا يصح من زاوية أخرى، أي زاوية قراءة أسباب النجاح وأسباب الفشل، فالكرة في الجوهر تقوم أساسا على نماذج من البنيات الاجتماعية التي تستجع شروط القوة النفسية والفنية والتقنية، وأن صراع هذه البنيات يكشف المعادلات التي ينبغي أن نركز عليها في كل فعل حضاري، وهل يتم الرهان على الأبعاد التقنية والفنية مما لا يمكن للمجتمعات العربي في ظل الشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية أن توفرها، أم ينبغي الرهان على الأبعاد الأساسية التي توفر شرط الحالة الذهنية التي تتجاوز الفروق التقنية والفنية والشروط التي تحاط بها لعبة كرة القدم في أوروبا.

 

لقد خاض مالك بن نبي رحمه الله في شروط بناء الحضارة معركة كبيرة على منطق التكديس من أجل البناء، أي لتماس النهضة خارج الشروط النفسية والاجتماعية والرأسمال الديني للمجتمع، وتماسك شبكة علاقاته الاجتماعية، واليوم تؤكد كرة القدم، بما هي مظهر من مظاهر الحضارة، أن رؤية مالك بن نبي صحيحة، وأن الرهان ينبغي أتن يقع على   الأبعاد القيمية والثقافية التي تؤسس لوحدة الفريق وتماسكه وتفجر طاقاته ومواهبه وتجله يتجاوز الفروق المفترضة مع خصمه، ويحقق الانتصار.

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع