منذ أسبوع، فاجأتنا السيدة ليز تراس رئيسة حكومة جلالة الملك البريطاني بتصريح عجيب أمام أحباء إسرائيل من أعضاء حزبها بالقول؛ إنها "صهيونية" وستعمل ما وسعها العمل على تقوية علاقات المملكة بإسرائيل، بدءا من نقل سفارة بريطانيا من تل أبيب إلى القدس، وطبعا فالسيدة تراس حرة في تحديد مواقفها وإعلان سياساتها، لكن من الحكمة أن ننصحها بالرجوع إلى محاضرة قيمة ألقاها الأمير تشارلز قبل اعتلائه عرش آبائه وأجداده، وذلك في التسعينيات على منبر جامعة أوكسفورد، حتى لا يصدم جلالة الملك كما صدمنا نحن بتصريح يظلم قضية فلسطين، وهي قضية مشروعية أممية لا لبس فيها، ولم تكن موجودة أصلا لولا وعد بلفور البريطاني الشهير، وهو الذي من قلب بريطانيا الإمبراطورية منح أرضا لا يملكها لشعب شتات لا حق له فيها. وأذكر شخصيا أني كنت عام 1992 نشرت كتابي في باريس باللغة الفرنسية تحت عنوان (سوء التفاهم بين الإسلام والغرب منذ ألف عام)، ثم نشرت كتابي في باريس أيضا عام 2004 بعد الفاجعة الإرهابية المشبوهة للحادي عشر من أيلول/سبتمبر تحت عنوان (نظرة الإسلام للغرب ونظرة الغرب للإسلام)، في ظروف حملات كراهية وعنصرية تستهدف الإسلام والمسلمين، إلى درجة تحويل الإسلام إلى عدو للغرب بعد أفول الشيوعية ونهاية الحرب الباردة. ونذكر بأن وسائل الإعلام البريطانية والأوروبية تناولت بعد تتويج تشارلز الثالث ملكا لبريطانيا علاقته بالإسلام، التي تعود إلى سنوات طويلة تعلم فيها التاريخ الإسلامي ودرس الإسلام بعمق، وتعلم بعض أصول العربية لفهم القرآن. وتحدث تشارلز الثالث غير مرة عن التاريخ الإسلامي واستشهد به في مواضيع عدة، بيئية واقتصادية وغيرها. وعلق موقع (عربي 21) الذي ترجم للعربية محاضرة الملك؛ "إن إعجاب ومعرفة تشارلز بالعقيدة الإسلامية موثقان جيدا، حتى وصل إلى أن يدعي مفتي قبرص في عام 1996 بأنه اعتنق الإسلام وهو مسلم سرّا! وكان تشارلز الثالث قد كشف ذات مرة أنه كان يتعلم اللغة العربية من أجل فهم القرآن بشكل أفضل، وهي حقيقة أشاد بها إمام مسجد كامبريدج المركزي. وظل خطابه (أو محاضرته) وثيقة أساسية لفهم العلاقات بين الحضارتين الأكبر قي العالم، واستمع للأمير آنذاك جمهور الأكاديميين والطلاب ورجال الإعلام حين كان أميرا لويلز، ألقاه في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، بعنوان "الإسلام والغرب"، وبدأ خطابه بالقول؛ إنه يعتقد جازما بأن الروابط بين هذين العالمين باتت اليوم أهم بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى؛ لأن درجة سوء الفهم ما بين العالمين الإسلامي والغربي، ما زالت مرتفعة جدا وبشكل خطير، ولأن حاجة الطرفين إلى العيش والعمل معا في عالمنا الذي يزداد تشابكا وتعقيدا، باتت أكثر إلحاحا من أي وقت سابق. وقال الأمير في مطلع محاضرته:
أشير عليَّ عندما بدأت في التفكير بموضوع المحاضرة، بأن أقتدي بالمثل العربي الذي يقول "في كل رأس حكمة". أعترف بأنني لا أملك من المؤهلات العلمية ما يبرر حضوري هنا في هذه القاعة، حيث يوجد كثير من الناس الذين يفوقونني علما ومساهمة في تقدم المعارف الإنسانية. لربما شعرت باستعداد أكبر لو كنت من خريجي جامعتكم المرموقة، بدلا من كوني نتاجا لتلك الكلية العلمية (يقصد كامبريدج)، مع رجائي أن تتذكروا بأن كرسي اللغة العربية تأسس في جامعة كامبريدج في القرن السابع عشر، قبل أربع سنوات كاملة من تأسس كرسيكم الأول للغة العربية في أكسفورد. وأضاف الأمير قائلا: "على النقيض من كثيرين منكم، لست خبيرا في الإسلام، رغم أنني سعيد لأسباب أرجو أن تصبح جلية، بأن أكون أحد رعاة مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية. فلدى المركز القدرة على أن يصبح وسيلة مهمة ومثيرة لنشر وتحسين الفهم في بريطانيا حول العالم الإسلامي. وأرجو أن يكسب المركز موقعه إلى جانب مراكز الدراسات الإسلامية الأخرى في أكسفورد، مثل المعهد الشرقي ومركز الشرق الأوسط، كمؤسسة تفخر بها الجامعة ويفخر بها العلماء في كل مكان". واستمر أمير ويلز يضرب الأمثال العربية محللا سوء التفاهم بين الحضارتين وقال: أخذا بالاعتبار التحفظات كافة التي لديَّ حول الخوض في مجال معقد ومثير للجدل، فقد تتساءلون لماذا أوجد ههنا في هذا المبنى الرائع، أتحدث إليكم حول موضوع الإسلام والغرب؟! والسبب أيها السيدات والسادة، هو أنني أعتقد جازما بأن الروابط بين هذين العالمين، باتت اليوم أهم بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى؛ لأن درجة سوء الفهم ما بين العالمين الإسلامي والغربي، ما زالت مرتفعة جدا وبشكل خطير، ولأن حاجة الطرفين إلى العيش والعمل معا في عالمنا الذي يزداد تشابكا، باتت أكثر إلحاحا من أي وقت سابق. وفي الوقت نفسه، أدرك جيدا أن الألغام تنتشر على طول طريق الرحالة غير الخبير، الذي حزم أمره ومضى يستكشف هذا المسار الصعب. ولذا؛ لا مفر من أن يثير بعض ما سأقوله اختلافا ونقدا وسوء فهم، وقد يكون من المناسب استذكار مثل عربي آخر يقول: "ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب فإنه يستقر في القلب".