فضلا عما يثمره دوام الاهتمام بالتاريخ والسياسة من معرفة بثوابت الشأن الإنساني وشوارده، فهو يجود من حين لآخر بمتع غير متوقعة، هي تلك التفاصيل الدقيقة التي قد تكون نتائجها جليلة الخطر، والمصادفات النادرة الكفيلة بأن تحدث فارقا تاريخيا بعيد الأثر من مثل ما فصله أريك دورشميد في كتابه «عامل المفصلة: كيف غيرت المصادفة والغباوة مجرى التاريخ».
ولعل من أمتع ما يقرأ في هذا الصدد مسألة الدور الفعال الذي أداه فن الطبخ ومراسم الضيافة في التاريخ الدبلوماسي. فقد كان للمآكل والمآدب خطرها وسحرها، مثلما تجلّى في مؤتمر فيينا (سبتمبر 1814 ـ يونيو 1815)، حيث نجح الدبلوماسي الشهير شارل-موريس تاليران في الدفاع عن مصالح فرنسا رغم ضعف موقفها بعد هزيمة نابليون، وقال قولته البليغة للملك الجديد لويس الثامن عشر «سيدي، إن حاجتي للطباخين تفوق حاجتي للدبلوماسيين»، أو مثلما تجلى في «عشاء الأباطرة الثلاثة» الذي جمع، عام 1867، قيصر روسيا الإسكندر الثاني وولي عهده مع قيصر ألمانيا فيلهلم الأول ووزير خارجية بروسيا (المستشار الألماني لاحقا) أوتو فون بيسمارك في المقهى الإنكليزي في باريس، على هامش المعرض (الصناعي والتقني) العالمي الثاني الذي اجتذب عشرة ملايين زائر كان بينهم ملوك وأمراء، من ضمنهم الأمير عبد القادر الجزائري والسلطان عبد العزيز.
ومن تلك الطرائف أيضا أن سربا من الطيور قرر ذات ليلة من عام 1949 أن يحط على إحدى ذراعي ساعة بيغ بن، وبما أن ذلك أغرى طيورا أخرى بالانضمام وطال بجميعها المقام، فإن وزن الطيور الجماعي قد أثقل ذراع النحاس الضخمة حتى أخّر الساعة بأربع دقائق ونصف! وهكذا نجحت الطيور في ما عجزت عنه طائرات الجيش النازي، حيث أن إحدى الغارات على مبنى البرلمان في مايو 1941 قد دمرت قاعة مداولات مجلس العموم وألحقت أضرارا بسقف برج بيغ بن، ولكن الساعة بقيت طيلة سنوات الحرب صامدة عاملة تدور وتحفظ الوقت.
ولا تزال قصة الغربان التي تأوي إلى مساكن المرج الجنوبي في برج لندن دليلا على غرائب المعتقدات والتقاليد الملكية في بريطانيا. إذ يشاء ولع أهل هذه البلاد بحفظ تفاصيل التراث ودقائقه، ما كان منها معقولا وما لم يكن، أن تبقى الأسطورة القائلة بأن المملكة ستسقط (بتفكك سياسي) وأن برج لندن سيسقط (بانهيار فعلي) إذا ما هجرت هذه الغربان القلعة المؤوية للبرج. ولهذا فإن الغربان الستة لا تزال تلقّب إلى اليوم بـ«حراس البرج».
فضلا عما يثمره دوام الاهتمام بالتاريخ والسياسة من معرفة بثوابت الشأن الإنساني وشوارده، فهو يجود من حين لآخر بمتع غير متوقعة، هي تلك التفاصيل الدقيقة التي قد تكون نتائجها جليلة الخطر
ويروى أن تشارلز الثاني، الذي أعيد على العرش عام 1660 عقب الحرب الأهلية الإنكليزية التي أدت إلى إعدام والده تشارلز الأول عام 1649 وإلى قيام حكم جمهوري بقيادة كرومويل، هو الذي أمر برعاية هذه الغربان وحمايتها بعد أن أنذره المنجّمون بسقوط التاج والبرج إن هي هجرت. وقد أصر على إمضاء أمره رغم شكوى عالم الفلك العامل لديه جون فلامستيد بأن الغربان تشوش عمل المرصد الفلكي الذي أقامه في البرج الأبيض.
وبهذا انتصر الملك لخرافة التنجيم (أسترولوجي) على علم الفلك (أسترونومي)! فلا غرابة أن يكون لهذه الغربان اليوم أسماء مثل يوبيل وبوبي وهاريس… بل إنها لها قيّما يرعاها بعباءته القروسطية المجلّلة بالخطوط الحمراء والشارة الملكية.
ولما هرب أحد الغربان أسقط في يدي القيّم، غير أن رجلا من سكان ضاحية غرينتش هاتفه بعد يومين قائلا إن في حديقته غرابا غريبا لا عهد له به، فهتف القيم: «سيدي إن مصير المملكة في يديك! لا بد من عودة الغراب إلى البرج». وشرح له كيفية استدراجه والإمساك به. وهكذا أنقذ ساكن غرينتش المملكة وحفظ الملكيّة.
أما أطرف ما اكتشفنا في الأيام الأخيرة فهو أن في قصر باكنغهام رجلا يشغل وظيفة ظريفة: إنه مربّي النحل الملكي! وما كان الجمهور ليعلم بهذه الوظيفة العريقة في القدم لو لا أن الصحافة ذكرت أن السيد جون تشابل قد تولى مهمة إذاعة الخبر الحزين إلى النحل.
قال تشابل إن الحالة اقتضت، اتباعا لسنّة ثابتة منذ قرون، أن يقف أمام كل خلية نحل في القصر قائلا: «لقد ماتت سيدتكم، لكن عليكم أن تبقوا هنا ولا تذهبوا، فسيحسن سيدكم الجديد معاملتكم». كما طلب تشابل من النحل أن يحسن هو أيضا معاملة الملك! وأصل القصة أن الاعتقاد كان يسود عند الأقدمين بأن النحل يقلع عن إنتاج العسل إن لم يأته خبر «مات الملك، عاش الملك!»
على أن هذا الاعتقاد ليس حكرا على الأسر المالكة، بل إنه اعتقاد شعبي أصيل. فقد كان عموم الناس في أوروبا ينقلون إلى النحل في مزارعهم وبيوتهم أنباء الحزن والموت، كما كانوا يزفون إليه الأنباء السارة (حصاد وفير، زواج، مولود ذكر، الخ) بتعليق قماشة حمراء على الخلية.
والغرض في الحالين هو استبقاء النحل داخل العائلة برفعه إلى مقام العضوية الكاملة.
(القدس العربي اللندنية)