مقالات مختارة

الملكة والإمبراطورية

1300x600

تاريخيا كان خبر وفاة الملك أو الملكة أو رأس الدولة في العموم من الأسرار العليا للدولة والخبر الخاص بحاشيته، وخدمه ومَن يقومون بحراسته وحفنة صغيرة ممن لهم في وراثة العرش. وفى الحقيقة فإن الأسرار وكتمانها كانت تبدأ قبل ذلك عندما يشتد الوهن أو المرض أو الشيخوخة بمَن كانت في يده السلطة. وفي كل أحوال المرض أو الوفاة فإنه لا أحد يريد إذاعة الخبر خوفا من استغلال الأعداء للموقف المضطرب، أو أن يتدخل أحد غير مرغوب في عملية نقل الصولجان عن حق أو غير حق.

 

ملكة مصر لفترة قصيرة، شجرة الدر، أخفت خبر وفاة الملك الصالح أيوب، وقيل إن ذلك كان حتى تنتهي معركة الدفاع عن مصر ضد الغزو، وانتظار عودة ولي العهد. أمراض رؤساء الدولة في مصر كانت من أسرار الدولة العليا، وعند إذاعتها كانت توضع بالقدر المطمئن على صحة الرئيس والوطن معه. الآن، والشهادة مع قصة وفاة الملكة إليزابيث البريطانية، فإن وفاتها باتت كما لو كانت تجري أمام كاميرات فيلم سينمائي يُعرض على الكوكب كله بحيث يتابع البشر كل دقائق اللحظة الدرامية المفعمة بصور التاج وأسماء السابقين واللاحقين من الملوك والأمراء والحقائق والفضائح.

 

شبكة «نتفليكس» كانت واعية تمامًا لحقيقة أن الملكة في سبيلها إلى ذهاب؛ ومن ثَمَّ كان المسلسل «التاج The Crown»، الذي لا يشير إلى أي تاج آخر، وعندما يُشار إليه دون تعريف فإنه يشير إلى التاج البريطاني رغم وجود العديد من التيجان الأخرى في أوروبا وآسيا. ومَن شاهد هذا المسلسل عاش الأيام الماضية كما لو كانت امتدادًا لتاريخ طويل يعرفه جيل كامل من البشر وُلد وعاش الحرب العالمية الثانية وما تلاها؛ وكانت القصة البريطانية فيها تعبيرًا عن غروب شمس.


فى العرض المستمر بين المسلسل والواقع، فإن قصة الملكة مرْوِيّة بغِنى في التفاصيل، وموقعها من التقاليد البريطانية الراسخة، ودورها الكريم والحاذق في ظلال «الملكية الدستورية» في التعامل مع مشكلات الأسرة الملكية العريقة، والقضايا البريطانية المتواترة على سبعين عامًا من المراقبة والمشاركة الشكلية. ولكن كل ذلك لا يُغنى عن حقيقة أن فترة الملكة كلها كانت إشرافًا على أفول الإمبراطورية البريطانية حتى ولو كانت رواية «الكومونولث» تحاول أن تبقى رمقًا لما ولّى وراح منذ زمن طويل.

 

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى كان الوقت مثل الوقت الذي نعيشه الآن موعد بداية النهاية للدولة العظمى القطب الوحيد في السياسة الدولية على مدى قرن كامل سادته بريطانيا منذ نهاية الحروب النابليونية. لحسن حظ الملكية البريطانية أن القوتين العظميين الجديدتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، انسحبت الأولى منهما من عصبة الأمم مع إصابتها بداء العزلة، أما الثانية فكان فيها من الاضطراب ما يكفي لتأجيل البزوغ حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. تطوعت الملكة أثناء الحرب في صفوف القوات الملكية، وهي التي باتت بعد ثلاثينيات عاصفة في الأسرة ولية العهد، الابنة الكبرى للملك جورج السادس. ورغم انتصار بريطانيا في الحرب فإن العالم بات جاهزًا لاستقبال قوى العالم العظمى الجديدة.

أفول الإمبراطورية بدأ بنشوب الحرب ذاتها واستنزافها فى القتال على مدى ست سنوات، ومن بعدها جاء العظماء الجدد وبينهما جرَت حرب باردة. بريطانيا حاولت قليلًا أن تتمرغ في أحضان مستعمراتها لكي تبقى قطبًا، ولكنها في «حرب السويس» ١٩٥٦ فقدت كل شيء مع عالم لم يعد كما كان.

وابتعدت بريطانيا عن دعوة التكامل الأوروبي لكي لا تكون رقمًا آخر بين جماعة من الأوروبيين التابعين للشرق السوفييتي أو الغرب الأمريكي، وعندما التحقت في عام ١٩٧٣ بالجماعة الأوروبية كان ذلك إيذانًا بتبعيتها هي الأخرى بعدما أصبحت حصان طروادة الأمريكي داخل الجماعة، ولكنها عندما خرجت منها في عملية «البريكسيت» فإنها باتت كما هي عادة الأمم العظمى السابقة تعتمد على التاريخ والأيقونات والتراث والمتاحف.

 

الملكة إليزابيث كانت تعني كل ما له علاقة بأقدار قديمة، لامعة وبراقة ولها من سمات الحكمة الكثير، ولكنها حكمة مَن يدير عملية تراجع وأفول، ومحاولة إعادة تعريف بائسة للموقع من العالم الذي بات غريبًا. الملك تشارلز الثالث أبدى إشارة مهمة في خطابه الأول وكيف أن والدته الملكة جاءت إلى قصر باكنغهام في عصر وتركته وقد باتت بريطانيا في عصر آخر، ليس فقط حسب مكانة بريطانيا في العالم، وإنما حسبما تغير في بريطانيا ذاتها. الملك ربما كان يشير وسط التبجيل والتقدير للراحلة العظيمة إلى أن الملكية في بريطانيا سوف يكون عليها أن تعيد تعريف نفسها من جديد.

 

(المصري اليوم)