اعتبر بعض المحللين والمتابعين للشأن العراقي إعلان المرجع الشيعي كاظم الحائري اعتزال العمل الفقهي وإغلاق مكاتبه، بمنزلة الضربة الأكثر إيلاما للسيد مقتدى الصدر وتياره السياسي، في لحظة فارقة من تاريخ الصراع في العملية السياسية العراقية؛ إذ يبدو أنها خطوة محسوبة لرفع الغطاء الفقهي عن عمل فصيل إسلام – سياسي شيعي، عبر تحويل ولاء أفراده إلى مرجع خصومهم الفقهي، المرشد الإيراني علي خامنئي. وقد ذهب البعض إلى أن انفجار الوضع والاقتتال الذي حصل في المنطقة الخضراء قبل أيام، كان رد فعل على إعلان السيد مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي، ردا على إعلان الحائري.
في هذا المفصل المهم من تداعي العلاقات الفقهية ـ السياسية في الحراك الشيعي العراقي، طرحت عدة تساؤلات حول هذه الأزمة مثل: هل كان الصدريون يطيعون الحائري بعد 2003 طوال عقدين من الصراعات السياسية؟ هل كانت هنالك إشكالات بالنسبة للتيار الصدري المناوئ للتوجهات الإيرانية، ومرجع تقليدهم يعيش في قم تحت سطوة المرشد الإيراني؟ هل يجب على كل أفراد الحركة السياسية الشيعية أن تقلد مرجعا واحدا؟ وما هو موقف التيار الآن، وكيف سيتعاطى مع إعلان اعتزال الحائري؟
في البدء، يجب أن نوضح فكرة التقليد وعلاقة المقلد بالمرجع الديني في الفقه الشيعي؛ لأنه يمثل مفتاحا لفهم ما سيطرح من أفكار. إن مبدأ الاجتهاد في الفكر الشيعي، أوجد مكانة مميزة للفقهاء، ممن يمتلكون حق الفتيا، كما ربط الفكر الفقهي الشيعي بين رجل الشارع الشيعي والفقيه بعلاقة وطيدة هي مبدأ (التقليد)، إذ يجب على الفرد الشيعي البالغ الملتزم دينيا، أن يكون له مرجع تقليد يستشيره ويرجع إليه في أمور دينه ودنياه، وعلى الرغم من وجود الحرية في اختيار الفقيه الذي يعتقد المقلد أنه الأعلم والأكفأ في تقليده، إلا أن هناك تراتبية تكاد تكون مخفية لفقهاء الشيعة، كما أن هنالك مكانة (معلنة/مخفية) لما يمكن أن يسمى المرجعية العليا.
مثّل مصطلحا ولاية الأمة وولاية الفقيه، صراعا في الفكر السياسي بين جناحي الإسلام الشيعي، إذ يمنح الأوّل صلاحيات محدودة للفقيه تمكّنه من أداء أدوار معينة في المجتمع والدولة، بما لا يتقاطع مع آليات الديمقراطية الحديثة، وأتباع هذا المفهوم يطلق عليهم أحيانا أتباع المدرسة العراقية؛ لأن حوزة النجف في الأغلب تمسكت بهذا النمط، وهذا التحديد للفقيه ودوره في الحياة العامة، علما أن التيار الصدري يتبنى نظرية ولاية الفقيه، وكان محمد محمد صادق الصدر قد طرح نفسه "ولي فقيه" بمواجهة المرشد الإيراني علي خامنئي. مدرسة ولاية الفقيه مثلت اجتهادا فقهيا سياسيا شيعيا منسيا، أو مندثرا منذ عهد الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر من أئمة الشيعة الإمامية (329هـ – 940م)، ما ترك في نظر بعض الفقهاء فراغا فقهيا وفراغا في قيادة الأمة، في حقبة الغيبة الكبرى، فبينما رأى جلّ الفقهاء أن حقبة الغيبة تعدّ حقبة انتظار وعدم فاعلية بانتظار ظهور الإمام الغائب، رأى بعضهم أنَّ الفقيه الممتلك لشروط الاجتهاد يمكنه أداء دور نائب الإمام، أو الحاكم باسم الإمام الغائب، لتوفير الشروط الملائمة لتكوين المجتمع الإسلامي المهيَّأ لظهور الإمام الغائب. وبقي هذا الاجتهاد مركونا على مدى قرون، حتّى فعّله السيد الخميني في ستينيات وسبعينيّات القرن العشرين. وعندما تسنم مهمة قيادة المجتمع والدولة الإيرانية بعد الثورة الإيرانية، اعتبر مفهوم ولاية الفقيه عصا الرحى التي تدور الحكومة الإسلامية حوله، وتساعد الولي الفقيه في هذا النظام مجالس ولجان تنفذ رؤياه؛ كونه الفقيه المالك لشروط القيادة الدينية والدنيوية.
وكما هو معلوم، أنه لا ضير في توزع تقليد أفراد المجتمع الشيعي على عدد من مراجع التقليد في ما يخص حياتهم اليومية، وتفاصيل عباداتهم وطقوسهم الدينية، لكن في المجال السياسي يبدو الأمر مختلفا، إذ يمثل مرجع التقليد للحركة أو الحزب، قائدا شرعيا وروحيا يجب الالتزام بتوجيهاته، لذلك؛ عادة ما يتوحد أفراد الحزب أو التيار وراء تقليد مرجع واحد. ويجب أن نشير إلى عدم جواز تقليد المرجع المتوفى في الفقه الشيعي، مع الأخذ بنظر الاعتبار فتاوى وآراء الفقهاء المتوفين، لكن يجب على المقلد أن يرتبط بمرجع على قيد الحياة، ليتسنى له اتباع تعليماته في متغيرات الدين والحياة، وهنا يجب أن نوضح نقطة مهمة أخرى، هي عدم امتلاك المرجع حق نقل تقليد أتباعه إلى مرجع آخر في أثناء حياته، لكن الذي يحدث هو ما يمكن اعتباره نوعا من النصيحة، كما حصل قبيل مقتل المرجع محمد محمد صادق الصدر والد مقتدى، الذي نصح أتباعه بأن عليهم في حال وفاته تقليد السيد كاظم الحائري، لثقته بأنه هو الأعلم بين مراجع الشيعة نهاية التسعينيات.
انعكاس صراعات المرجع محمد محمد صادق الصدر مع مراجع حوزة النجف التي كان يسميها الحوزة الصامتة، ومراجع حوزة قم ومؤسسة الولي الفقيه، انعكس على تحركات التيار الصدري وقيادته الجديدة المتمثلة برجل الدين الشاب مقتدى الصدر بعد 2003، وقد شاب التوتر علاقة مقتدى بالحائري، وبقيت علاقة التيار بالحائري مجرد كلمات وتسميات تذكر نتيجة عدم حصول مقتدى على درجة الاجتهاد، ومن ثم عدم تمكنه من أداء دور مرجع التقليد لتياره السياسي، ودور الولي الفقيه الذي كان محمد الصدر ينادي به. وإن خلو التيار من ظهور مرجع تقليد عراقي من بين تلاميذ وأتباع محمد الصدر، عزز الأزمة، وهنا يمكن أن نذكر عملية انشقاق مرجع مهم كان مرسوما له أن يؤدي دور فقيه التيار، هو الشيخ محمد اليعقوبي، الذي انشق مبكرا عن التيار الصدري وكوّن حركته (الفضلاء)، التي تحولت لاحقا إلى حزب الفضيلة الإسلامي. لذلك؛ مرت العلاقة بين الحائري والصدر الابن بالعديد من الجفوات والأزمات، ما جعل أتباع التيار الصدري غير معنيين بالالتزام السياسي بتوجيهات مرجعهم، باستثناء كبار السن من الملتزمين دينيا، وممن يتذكرون توجيهات محمد الصدر القاضية بتقليد الحائري.
كانت كلمات كاظم الحائري في بيان اعتزاله قاسية وموجعة لمقتدى الصدر، إذ أشار إلى «أن على أبناء الشهيدين الصدريين (قدّس الله سرّهما)، أن يعرفوا أن حبّ الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدريين (رضوان الله تعالى عليهما)، أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد، أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة، فهو في الحقيقة ليس صدريّا مهما ادعى أو انتسب». وأضاف: «ولا بدّ لي من كلمات أخيرة اُوصي بها أبنائي: على جميع المؤمنين إطاعة الوليّ قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظلّه)، فإنّ سماحته هو الأجدر والأكفأ على قيادة الاُمّة وإدارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار، في هذه الظروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشرّ ضد الإسلام المحمدي الأصيل».
لذلك؛ جاء رد مقتدى الصدر عنيفا، إذ قال في تغريدته: «يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم. كلا، إن ذلك بفضل ربي أولا، ومن فيوضات السيد الوالد قدس سره الذي لم يتخلَ عن العراق وشعبه». وأضاف الصدر ردا على طلب الحائري من مقلديه التحول لتقليد الخامنئي بقوله: «على الرغم من استقالته، فإن النجف الأشرف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوما، وإنني لم أدع يوما العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة، إنما أنا آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر ولله عاقبة الأمور، وما أردتُ إلا أن أقوّم الاعوجاج الذي كان السبب الأكبر فيه هو القوى السياسية الشيعية باعتبارها الأغلبية، وما أردتُ إلا أن أقربهم إلى شعبهم وأن يشعروا بمعاناته، عسى أن يكون بابا لرضا الله عنهم». واتهم جهات إيرانية بالضغط على الحائري لتوجيه ضربته بقوله: «على الرغم من تصوري أن اعتزال المرجع لم يك محض إرادته.. وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضا، إلا أنني كنت قد قررت عدم التدخل في الشؤون السياسية، فإنني الآن أعلن الاعتزال النهائي وغلق المؤسسات كافة، إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام.. والكل في حلّ مني، وإن مت أو قتلت، فأسالكم الفاتحة والدعاء».
بناء على ذلك، يرى العارفون بمسار التيار الصدري، أن ضربة اعتزال الحائري لن تكون قاتلة فقهيا بالنسبة للتيار، ويرون أنها أزمة ستمر وسيتم استيعابها وتجاوزها، بل حتى إن بعض المحللين طرحوا أسماء عراقية ستتبوأ منصب مرجع التيار خلفا للحائري مثل آية الله الشيخ قاسم الطائي، إلا أن الأزمة الأخيرة ما زالت تثير تداعيات يمكن أن تعمل على تغيير بعض الوقائع على الأرض في الأيام المقبلة.