دخل المئات من أتباع العمامة الدينية المنطقة الخضراء في بغداد، مرتين الأسبوع المنصرم. وتضم المنطقة مؤسسات الحكومة والبعثات الدبلوماسية ودور المسؤولين. كما دخلوا مقر البرلمان وهم يرددون شعارات ضد إيران، رافضين مرشح رئاسة الوزراء، الذي أعلن عنه تكتل الأحزاب والميليشيات المحسوبة على الحرس الثوري الإيراني، بعد تسعة أشهر من عجز تام عن تشكيل حكومة، منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وكان زعيم المتظاهرين رجل الدين مقتدى الصدر قد عارض عملية الترشيح والمرشح أيضا. على الجانب الآخر من المشهد، كان غرماء الصدر وشركاؤه في البيت الشيعي قد دعوا أتباعهم إلى احتجاجات مضادة، فيما نحت تيارات منهم إلى تغليب لغة الحوار مع الرجل، درءا لقتال شيعي- شيعي كما زعموا. فمن سيحسم الصراع الممتد منذ عام 2005 وحتى اليوم بين العمامة والبندقية؟
يبدو واضحا أن المشهد السياسي العراقي لم يتغير، وأن الأمر يعتمد على الجوانب الشخصية، من دون الأخذ بنظر الاعتبار العوامل الأخرى، وما زال الجميع لا يعترفون بأن السياسة فعل اجتماعي يسعى القائمون به لخدمة الوطن والمواطن، بل ينظرون إليه على أنه استحقاق ومكرمة، لذلك تشكل لدى زعامة التيار الصدري اعتقاد بأنه الممثل الشرعي والوحيد لعراقيي الداخل، لأنه ينظر إلى التيارات الشيعية الأخرى بأنها قوى تشكلت في الخارج، وبالتالي فإن هذا التمايز الذي وضعه هو لنفسه، كان يعتقد أنه يرتب له امتيازات مادية ومعنوية أكثر من الآخرين، ولأن بنية التيار الداخلية والهيكلية التنظيمية له غير قائمة على أسس سياسية رصينة، ولأن أتباعه هم من بسطاء الناس المنقادين بعواطفهم الدينية إلى الإرث الديني لعائلة الصدر، فإنه لم يستطع مجاراة الآخرين من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، الذين سيطروا بشكل تام على المشهد العراقي منذ عام 2003 حيث استغلوا قيام المحتل بإعادة هيكلة الوزارات ومؤسسات الدولة والجيش والأجهزة الامنية، فوضعوا شخوصهم وأعوانهم ومؤيديهم فيها بصفة كوادر الصف الأول والثاني، وبذلك سيطروا بشكل تام على عناصر القوة المادية والمعنوية للدولة، وعلى الرغم من أن التيار الصدري حاول في السنوات الأخيرة، الزج بعناصره وأتباعه للسيطرة على بعض مفاصل الدولة، ونجح في ذلك، لكن الشارع بقي مسرحه الذي يظهر عليه بطولته كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
وقد وجد في هذا المسار قوة وازنه له مع قوة الآخرين، وعاملا مهما يصنع به معادلة رعب مع التيارات الشيعية الأخرى، فهل نجح في ذلك؟ يبدو أن مقتدى الصدر نجح في ذلك عندما حشد اتباعه وأنصاره فحصد 73 مقعدا في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، آنذاك تخيّل أنه سيكون صانع الملوك في العراق، وأن الزعامتين الشعبية والسياسية ستكون في رحله هذه المرة، لكن كل محاولاته لتشكيل حكومة على مدى تسعة أشهر باءت بالفشل، بسبب تكتل الأحزاب الشيعية الأخرى ضده في البرلمان.
ولعل الوصف الذي أطلقه عليه زعيم هذا التكتل نوري المالكي في التسريبات المنسوبة إليه بأنه (جاهل ولا يفهم في السياسة شيئا)، تعطي انطباعا واضحا بأنهم لن يسمحوا لمقتدى الصدر بتولي الزعامة السياسية، وقد فهم الرجل اللعبة، وعرف أن هنالك إرادة مقابلة تريد كسر إرادته. عندها لم يجد بدا سوى التفريط بذراعه البرلمانية، ونقل مراهنته السياسية إلى ما يسميه المعارضة الشعبية، فأصدر أوامره إلى نوابه الـ73 بالاستقالة من البرلمان. حينها طُرح الكثير من التساؤلات عن مدى إمكانية أن تستمر هذه المعارضة الشعبية وتنجح، من دون غطاء سياسي في البرلمان، لكن فاتت على المتسائلين حقيقة أن مقتدى الصدر لم يكن جادا في سحب نوابه من البرلمان في البداية، كان قد رسمها كخطوة تكتيكية يحرج بها الآخرين، ظنا منه أنهم سيهرعون إليه للوصول إلى تسوية ما، فيضمن من خلالها نتائج تصب في توجهاته، لذلك وجدناه في بداية الأمر قد أوعز لنوابه بكتابة استقالاتهم وإيداعها معه، ولم يطلب منهم تقديمها فورا، ولأن ذلك لم يحدث فقد بات الشارع هو وسيلته الوحيدة لتحدي غرمائه، وأصبح الشعار الذي يرفعه هو «إن كنتم لا تريدونني أن أحكم فلن أدعكم تحكمون أيضا».
وقد فهم الطرف الآخر الرسالة بوضوح تام، وقالوا علانية بأن اعتراض الصدر ليس على المرشح، بل سيكون اعتراضا ممتدا على كل مرشح آخر، حتى لو تم استبدال المرشح الحالي، ويبدو هذا صحيحا، لأنه يعتقد أن إنهاء تحالف خصومه الشيعة يأتي من خلال الاعتراض على كل مرشحيهم، ثم يضعهم أمام الأمر الواقع وهو إجبارهم على حل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة وصولا إلى كتلة كبيرة تمثل الأغلبية السياسية التي يريدها، فهل سيستمر الرجل بتخريب الملعب السياسي على رأس غرمائه في البيت الشيعي؟
يبدو أن الرجل قد تطرف في مطالبه إلى حد عدم الواقعية، فموقفه اليوم يقول إن الثورة الشعبية التي حررت المنطقة الخضراء، لا بد من أن تستمر حتى تغيير النظام السياسي برمته والدستور والانتخابات، لكنه لم يطرح بديله لهذا التغيير الذي يدعو له، كما أن هذا المطلب يحتاج إلى أحد معولين لهدم الكيان السياسي القائم منذ عام 2003 وحتى اليوم، الأول إما إعادة هيكلة النظام السياسي برمته، أو التغيير الجذري لكل الواقع السياسي القائم، ولو طبقنا هاتين الآليتين لإنتاج ما يريده الصدر فلن يفلح أي منهما لتحقيق ذلك، لوجود إشكاليات دستورية وقانونية لن تسمح بالتغيير وفق رؤيته، كما لا بد من السؤال عن الثورة التي يزعم بها.. أين هي الثورة التي يتحدث عنها؟ فالجمهور الموجود اليوم في المنطقة الخضراء والبرلمان خرج بتغريدة، وهو مستعد للعودة الآن إن صدرت تغريدة من المصدر نفسه تطالبه بالعودة من حيث أتى، بينما الثورة خلاف ذلك تماما.
إذن واهم من يراهن على ما يحدث الآن في المنطقة الخضراء، ويحسبه ساعة التغيير المنشودة، فالحقيقة التي يجب الجهر بها هو أن الأزمة برمتها هي عبارة عن صراع إرادات بين مقتدى الصدر من جهة، وتحالف أعمدة البيت الشيعي، المالكي والعامري وقيس الخزعلي وآخرين. وملخص الصراع هذا قائم على محاولة هذين الطرفين الفوز بالهيمنة على القرار الشيعي، والقرار السياسي في العراق، فلن يسمح التحالف الشيعي بأن يمسك الصدر زمام الأمور، كما لن يسمح الصدر بتشكيل حكومة من قبل التحالف الشيعي، السؤال هل هذا الصراع قابل للحل؟ ببساطة يمكن القول إنه غير قابل للحل في ظل الظروف الحالية، بسبب عدم وجود رؤية لكيفية نزع فتيل الأزمة من قبل الطرفين، وكذلك عدم وجود الشيء نفسه بالنسبة للشركاء الآخرين من سُنة وأكراد تحالفوا مع الطرفين. صحيح يمكن سماع دعوات من هذا الطرف وذاك الطرف للتهدئة، والجلوس إلى طاولة حوار لمناقشة كل الإشكالات، لكن لا توجد خريطة طريق حقيقية وواضحة للحل، لذلك لم يعد ممكنا تشكيل حكومة كما يريد غرماء الصدر، كما لا توجد إمكانية لعقد مجلس النواب. وهنا يبرز الحل الوحيد وهو الاتفاق على حكومة انتقالية عمرها سنة، تمنح سلطات تشريعية وتنفيذية معا، لإقرار قانون انتخابات جديد ومفوضية انتخابات أيضا. صحيح أن الصدر لديه عمامة دينية وشارع، لكن خصومه من الشيعة بيدهم القوة الصلبة والناعمة للدولة، فهل تحسم الصراع بينهم إيران؟ وكيف سيكون شكل هذا الحسم؟
(القدس العربي)