ضحى في سبيل الجزائر وحريتها، واختار النضال النقابي للدفاع عن حقوق العمال الجزائريين، ومن خلال العمل النقابي انخرط في الثورة الجزائرية باسم مستعار.
بقي وفيا لمبادئه، ولم يضعف أمام قسوة السجان الفرنسي، وبقي يطارد حلمه في تأسيس نقابة عمالية جزائرية بعيدا عن هيمنة الاستعمار ومؤسساته.
كان وطنيا صلبا في كل ما يتعلق بحرية وطنه وأبناء شعبه، وكان ذكيا بحسب مقربين منه، ويمتلك كاريزما أزعجت الفرنسيين لسنوات.
ولد عيسات إيدير في قرية قرب مدينة تيزي وزو عام 1919 في عائلة فلاحية متواضعة الحال.
انتسب إلى المعهد الثانوي الفرنسي للحصول على شهادة الطور الأول من التعليم الثانوي، إلا أن الحالة الاقتصادية لأسرته حالت دون الاستمرار في الإنفاق عليه، ما أرغمه على ترك مقاعد الدراسة.
لكنه عاد في عام 1935 والتحق بعمه المقيم بتونس حيث تابع دراسته العليا في الاقتصاد بالجامعة التونسية.
وفي عام 1944 انضم عيسات إلى ورشة صناعة الطيران التي تميز فيها، فرقي إلى رئيس قسم المراقبة الإدارية، ما دفع إدارة الورشة إلى إرساله إلى المغرب ليقوم بنفس العمل في مطار الدار البيضاء.
في هذا الوسط العمالي بدأت تظهر ميوله النقابية واهتم بالدفاع عن مصالح العمال الجزائريين، ما دفع برفاقه إلى انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية لعمال الدولة، وهي لجنة تابعة للنقابات الشيوعية الفرنسية.
ولم يقع عيسات خلال عمله النقابي في خدعة النقابات الفرنسية، فقد تبين له بالممارسة الواقعية أن النقابات الفرنسية، حتى وإن كانت شيوعية الميول، إلا أنها لا تهتم بالعامل الجزائري بقدر ما تهتم بقضايا العمال الأوروبيين.
وبعد عودته إلى الجزائر بدأت تنضج لديه فكرة تأسيس منظمة نقابية جزائرية، ما أثار عداوة النقابات الفرنسية فأخذت تسعى لإبعاده عن مناصب المسؤولية وبدأت في التحريض ضده.
وأثمرت حملة التحريض بأن داهمت الشرطة الفرنسية في عام 1951 المصنع الذي كان يعمل فيه، وألقت القبض عليه برفقة 10 عمال جزائريين ولم يطلق سراحه إلا بعد 10 أيام.
بعدها التحق بوظيفة أخرى في صندوق المنح العائلية التابع لقطاع البناء والأشغال العمومية، وأصبح مسؤولا عن اللجنة المركزية للشؤون النقابية التابعة لحركة انتصار الحريات الديمقراطية.
ولم يتركه الفرنسيون دون مضايقة فقد أعادوا اعتقاله وسجنه مرة أخرى في عام 1954 لكنهم ما لبثوا أن أطلقوا سراحه قبيل اندلاع الثورة الجزائرية.
ولم تضع جهود عيسات عبثا أو هباء فقد نجح أخيرا مع رفاقه في تأسيس أول منظمة نقابية جزائرية متمثلة في الاتحاد العام للعمال الجزائريين في عام 1956 وأكثر من ذلك فقد انتخب أمينا عاما للاتحاد الجديد.
كانت سلطات الاستعمار الفرنسي تراقب الوضع عن كثب فصدر أمر من روبير لاكوست الوزير المفوض بالجزائر باعتقاله للمرة الثالثة بسبب نشاطه النقابي، وأدخل عدة سجون ومعسكرات ومحتشدات آخرها سجن "سركاجي" بالعاصمة الجزائر.
ألصقت به سلطات الاستعمار تهما جاهزة ومعلبة مسبقا؛ فقد وجهت له النيابة الفرنسية تهمة النيل من أمن الدولة الفرنسية الخارجي.
وانتهى الأمر في عام 1959 بإصدار المحكمة العسكرية حكمها ببراءته، لكنه بالرغم من تبرئته لم يطلق سراحه وإنما نقل من جديد إلى معسكر "بئر تراريا" بالعاصمة، وهو المكان الذي كان يتم فيه التعذيب بشكل علني من جانب "المظليين ذوي القبعات الزرقاء" طوال معركة الجزائر.
وتعرض عيسات لأبشع أنواع التعذيب وأقساها وأكثرها وحشية وهمجية، ونقل بعد 4 أيام من التعذيب المتواصل إلى المستشفى العسكري.
وحاولت "الاتحادية الدولية للنقابات الحرة" الحصول على تصريح بنقل عيسات إلى خارج الجزائر للعلاج من الجروح في مركز متخصص بسويسرا، إلا أن هذا الطلب رفض رفضا قاطعا من قبل ذولوفري ممثل فرنسا في الجزائر.
استشهد عيسات إيدير في 26 تموز/ يوليو عام 1959 نتيجة للتعذيب الذي وقع عليه على يد المستعمر العنصري الفاشي، وبرر المستعمر سبب نقله إلى المستشفى بـ"حدوث جروح بليغة نتيجة اشتعال سيجارة في فراش نوم المعتقل"، وهو الذي لم يدخن يوما!.
توفي الشهيد عيسات إيدير بعد معاناة طويلة ومريرة نتيجة الحروق التي أصابته.
أثار اغتيال الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين موجة واسعة من الاستنكار والسخط في أنحاء عدة من العالم.
وكانت فرنسا المستعمرة للجزائر تدرك دور عيسات وأهميته ووزنه في الحركتين الوطنية والعمالية وفي الثورة التحريرية الكبرى، خاصة منذ أن ورد اسمه في قائمة أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية.
لكنها لم تتمكن من تبرير ذلك أمام المحكمة العسكرية التي برأته من كل التهم المنسوبة إليه.
لذلك، فقد قام عناصر من المظليين باختطافه بقيادة السفاح الجنرال ماسو، مباشرة بعد خروجه من المحكمة وقاموا بتعذيبه والتنكيل به، ثم قاموا بافتراء كذبة قيام عيسات بمحاولة الانتحار أو على الأقل تعرض عبيسات لحادث بسبب نقص الحذر واليقظة من طرفه.
ولم تكن السنوات التي سجن فيها عيسات مريحة للفرنسيين، فقد كان عيسات يمارس دوره النقابي والتنظيمي والوطني حتى وهو في السجن، عبر تنظيم المعتقلين والدفاع عنهم وعن حقوقهم أمام سلطات السجون الفرنسية.
لا يعد عيسات من الشخصيات الجزائرية التي يعرفها الجيل الجديد، وقد لعب إنتاج مسلسل عن حياته في عامي 2008 و2010 دورا هاما في إعادة إنعاش ذاكرة الجزائريين للتعرف على سيرة هذا البطل الجزائري الاستثنائي، الذي خاض مع رفاقه معركة التحرر من قيود الاستعمار الفرنسي الذي تجاوز جميع حدود التوحش والهمجية في قمع واضطهاد الشعب الجزائري في معركته الوطنية والقومية لنيل حريته التي جاءت مضرجة بالدم بعد نحو مليون شهيد وشهيدة.