تجهد مراكز استطلاعات الرأي في إسرائيل كل عدة أيام لترى إن كان قد جرى أي تغير لدى الجمهور الإسرائيلي، مهما كان طفيفا لتعرف أيا من المعسكرات السياسية في إسرائيل سيحصل على "المقعد السحري" في الكنيست، المقعد 61، الذي يؤهل أصحابه لتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بعد انتخابات شهر تشرين الأول/ أكتوبر القادم. ومع كل استطلاع يجهد المراقبون على عد مقاعد الأحزاب وجمعها، ومن خلال هذا العملية الحسابية يمكنهم توقع الطرف الذي قد يشكل الحكومة، ومن ثم تخرج العناوين في الصحف الإسرائيلية وغيرها لتعلن أن هذا الطرف أو ذاك أصبح لديه 61 مقعد كنيست إذا ما جرت الانتخابات اليوم.
لا بد من أن يكون الإسرائيليون، لو أنهم مجتمع طبيعي كغيره من المجتمعات، وغير مسيطر عليه بديماغوجية "التهديد الوجودي" قد ملوا متابعة هكذا أخبار، وسئموا كل ما يتعلق بالانتخابات، بعد أن دفعوا إليها رغما عنهم خمس مرات في أربع سنوات دون أن يلمسوا أي تغير حقيقي. والإسرائيلي، وعندما يذهب للاقتراع، لديه مشكلة في التمييز، ومعظمهم يقترع ما اعتاد أن ينتخبهم دون أن يكلف نفسه عناء التفكير حول الفرق في البرامج السياسية والاجتماعية، لأنه في الواقع لم يعد يشعر بفوارق كبيرة بين هذا وذاك.
تاريخيا، وحتى بداية الألفية الحالية، كان الناخب الإسرائيلي يقترع بنسبة معقولة برامج سياسية واجتماعية، وبعيدا عن القضية الفلسطينية، كان هناك هناك خارطة سياسية تتراوح فيها الأطياف السياسية من اليمين المتطرف إلى اليمين التقليدي ويمين الوسط والوسط ومن ثم يسار الوسط واليسار، وكان هناك تجمعان لهما واقع مختلف، هما القوائم العربية ولأسباب قومية، والأحزاب الدينية. وعند تأسيس الدولة عام 1948، كان اليسار ويسار الوسط هما الطاغيان من خلال حزب مباي، وهو حزب بن- غوريون، وعلى يساره حزبا مابام، و الحزب الشيوعي. أما اليمين فكان يمثله حزب حيروت، بقيادة مناحيم بيغن، والذي تعود جذوره إلى الحزب القومي الليبرالي "بيتار"، الذي أسسه أبو القومية الصهيونية زئيف جابوتنسكي، وعندما اتحد حيروت والحزب الليبرالي اليميني الآخر في مطلع السبعينيات تشكل الليكود أي "التكتل". كما كان هناك حزب ديني وحيد مع البدايات هو حزب المفدال، الذي كان بن - غوريون يصر دائما على ضمه إلى الائتلاف الحكومي، رغم اعتراض الحليف الكبير في حينه المابام والمعارض بشكل حاسم للتوجهات الدينية.
وبقي المباي، المعراخ لاحقا حتى منتصف السبعينيات هو المسيطر، إلى أن ألحق به الليكود أول هزيمة عام 1977، ثم ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 1999, كان حزبا الليكود والعمل (المعراخ) يتناوبان على الحكم في إسرائيل.
الروح النشطة، الحيوية الجذابة، المؤسسة لإسرائيل، لم تعد موجودة، فهل هذا يعني أن الدولة العبرية قد شاخت قبل أوانها؟ ربما ليس مستغربا أن نسمع في الآونة الأخيرة بعض الأصوات التي بدأت تحذر في إسرائيل، بمن فيهم يهود باراك، من قرب نهاية إسرائيل. صحيح قد لا تكون النهاية المادية، وإنما المقصود أن إسرائيل الصهيونية الليبرالية ذات المسحة اليسارية هي التي انتهت، ليحل محلها إسرائيل المتحجرة والمتخندقة خلف تيار الصهيونية الدينية الفاشية، وفي كلا الحالين تكون إسرائيل القديمة التي فقدت روحها قد انتهت.
ولو تعمقنا أكثر بالمشهد الإسرائيلي للاحظنا أن النجوم الصاعدة في إسرائيل في هذه المرحلة هم أشخاص مثل سموتريش وبن يائير المتطرفين، وهما أبعد ما يكونان عن بن _ غوريون أو حتى مناحيم بيغن، ولا يمتان بصلة للثعلب شمعون بيرز ولا لرابين أو غولدا مائير، إنهم أشخاص بائسون لا يمتون للإنسانية والعصر بشيء سوى من زاوية الكراهية المعتمة، وربما لا دور لهم سوى خدمة مآرب نتنياهو فهو لا يختلف عنهم سوى بالشكل. وفي نظرة أوسع فامتداد هؤلاء في العالم هم الفاشيون والنازيون الجدد، والذي تخاف البشرية، وجودهم لأنهم مدمرون للحضارة الإنسانية.
مؤسسو إسرائيل كانوا صهيونيين في أغلبهم ذوي توجهات يسارية عمالية وأقلية قومية صهيونية ليبرالية، مع كتلة دينية صغيرة، أما القوة المتنامية في إسرائيل اليوم فهي الصهيونية الدينية، التي سبقت الإشارة إلى رموزها، الفاشيين العنصريين سموتريش وبن يائير.
المقعد السحري 61، ليس هو مشكلة إسرائيل وإنما هو في تلك التحولات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، التي تأخذ المجتمع الإسرائيلي إما نحو مزيد من التطرف أو إلى اللامبالاة. فالخارطة السياسية للأحزاب الإسرائيلية تخلو من أي فريق يمنح الأمل بالمستقبل، وهذا ما يهدد وجود إسرائيل فعليا.