أثارت جريمة قتل 19 طفلا ومدرسين في مدرسة ابتدائية أمريكية جدلا واسعا حول ثقافة القتل والسلاح في الولايات المتحدة الأمريكية، في أجواء لا تخلو من التوتر والتقزز والإحباط. فالحادثة المذكورة ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، وضحاياها أصبحوا أرقاما تضاف لسجل طويل من القتل العبثي الذي يمارسه «معتوهون» تارة و«عنصريون» ثانية و«معقدون» ثالثة. إنه مسلسل القتل الذي يحصد أرواح الأبرياء، في البلد الذي يفترض أن حكامه تعلموا من تجارب طويلة من العنف والتوتر العرقي، ولكنهم يصرون على الاحتفاظ بـ «مشاعة السلاح».
هذا المصطلح استخدمه الشاعر مظفر النواب الذي فارق الحياة الأسبوع الماضي، بعد حياة حافلة بالشعر الثوري الذي طالما تغنى به المناضلون في العالم العربي. استخدم هذا المصطلح الذي نسبه للقرامطة في قصيدة اشتهرت في السبعينيات بعنوان «وتريات ليلية» قال فيها: «أنا قرمطي، أولئك قالوا بمشاعة الأرض ومشاعة السلاح، ولكن لم يقولوا بمشاعة الإنسان، وأنا أيضا مع مشاعة الأرض ومشاعة السلاح، ولكن أرفض مشاعة الإنسان». كان الراحل يتحدث عن مشاعة السلاح في إطار نضالي بحت وليس في إطار مفهوم امبريالي يؤدي إلى الفوضى والعبثية والعنف الأعمى.
وهنا يشترك النواب مع الثقافة الأمريكية في مسألة مشاعة السلاح، ولكن من منطلقين مختلفين بل متضادين. فالولايات المتحدة الأمريكية ترزح تحت كابوس الأزمات والمآسي الناجمة عن مبدأ توارثه الأمريكيون عن «الآباء المؤسسين»، يقضي بحق كل مواطن أن يمتلك السلاح، هذا «الحق» تحول إلى كابوس يزداد إيلاما حين تقع مجزرة على غرار ما حدث الأسبوع الماضي.
ففي الأسبوع الماضي لقي 19 طفلا وبالغان مصرعهم في إطلاق نار في مدرسة ابتدائية في جنوب تكساس، يرتادها أطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و 10 سنوات – في مدينة أوفالدي، قبل أن يقتله أفراد الشرطة. وكان في حوزته مسدس وبندقية شبه آلية من طراز AR ـ 15، وخزائن رصاص ذات سعة كبيرة. ويشتبه في أن الشاب أطلق النار على جدته قبل توجهه إلى المدرسة.
وقد تكررت حوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية، وذكر إصدار إدويك (وهو نشرة تجارية تعليمية) أن العام الماضي شهد 26 حادثة من هذا النوع. وتعتبر حادثة إطلاق النار عام 2012 في مدرسة ساندي هوك الابتدائية في ولاية كونيتيكت الهجوم الأشد دموية، حيث حصدت أرواح 26 شخصا أغلبهم بين الخامسة والسادسة من العمر. وحدث نقاش حاد في مجلس الشيوخ الأمريكي آنذاك حول السيطرة على الأسلحة، لكن الجمهوريين رفضوا فرض رقابة على الأسلحة. وقال تيد كروز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس؛ «إن تقييد حقوق المواطنين الملتزمين بالقانون لا يجدي، إنه غير فعال ولا يمنع الجريمة». ويوما بعد آخر تتوسع حوادث إطلاق النار بالبنادق، حتى تجاوزت بقية الجرائم، لتصبح السبب الرئيس لوفاة الأطفال والناشئين الأمريكيين قبل عامين.
وقال تقرير صدر عن مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)؛ إن هجمات «إطلاق النار النشطة» تضاعفت بعد انتشار الوباء، وإن رفض تقنين السلاح يعكس نفسية أمريكية خاصة تجاوزت الخشية من الموت أو القتل، ومنحت أولوية لاقتناء السلاح كـ «حق قانوني» برغم ارتفاع حدة الأصوات المطالبة بمراجعة التشريعات الخاصة بهذه الحيازة. إنه جزء من استمرار تأهيل النفسية الأمريكية لكي تمارس القوة والبطش بحق الآخرين خارج الحدود. ففي كل بلدان العالم يحصر امتلاك السلاح بالدوائر المختصة به، خصوصا المختصة بشؤون الدفاع والأمن.
يرفض الجمهوريون الذين يمثلون الروح الأمريكية الإمبريالية تغيير قانون امتلاك السلاح برغم تكرار المجازر التي تحدث بسبب انتشار السلاح بشكل قانوني
الأمر الظاهر وجود خلاف حاد بين الديمقراطيين والجمهوريين إزاء حيازة السلاح. ويعود الحق القانوني لامتلاك السلاح إلى العام 1791 عندما تم اعتماد عشر مواد سميت «وثيقة الحقوق» أضيفت إلى الدستور الأمريكي، صاغها جيمس ماديسون المعروف باسم «أبو الدستور»، وهي تحمي حق التعبير عن الرأي، وحرية الصحافة، وحق التظاهر. ويستمد الدستور الأمريكي مادة «الحق في التسلح» من القانون الإنكليزي، الذي يؤكد أن هذا الحق من الحقوق الطبيعية. وتحمي المادة الثانية من الدستور حق الفرد في امتلاك سلاح لأغراض مشروعة؛ هي الدفاع عن النفس داخل المنزل. ويرجع الدافع الأساسي لتأييد هذا القانون حين إصداره إلى القلق الشديد من استبداد الحكومة بالسياسة، خصوصا بعد الحرب الأهلية الأمريكية، واعتبار حمل السلاح الشخصي الحق الأهم لحماية الحقوق الأخرى التي تم اعتمادها في إطار مواد سميت «العشر».
هذا يعني أن تسهيل اقتناء السلاح، وإن كان «ضمن القانون»، تشجيع لاستخدامه، فما جدوى اقتنائه إذا كان سيوضع في المخازن؟ كما أن نشر السلاح يضعف حكم القانون وسيادته، إذ يدفع حامله للشعور بالقوة وربما شرعية تنفيذ ما يعتبره «حقا». وهذا يضعف سيادة القانون ويستبدله بالأذواق والنوازع البشرية.
ولعل هذا يوفر تفسيرا للنزعة الأمريكية لممارسة العنف ضد الآخرين، وعدم الالتفات إلى أعداد الضحايا التي تحصدها صواريخهم وقنابلهم. وهذا مناقض لمبدأ العمل لإقامة حكم القانون والتأسيس لمجتمع حديث يحكمه القانون.
هذه السجالات حول أصل القانون ومبرراته تسعى للتعتيم على البعد الإمبريالي في المشروع الغربي، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية. تتأسس الإمبريالية على مفهومين متلازمين: أولهما استعلاء العنصر الأبيض، وثانيهما عقلية الاستعمار والاحتلال، وتجد مصاديقها في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا و «إسرائيل»؛ حيث الاحتلال والاستيلاء ومصادرة حقوق السكان الأصليين. وعلى أساس المفهوم الأول وضمان هيمنته، يتم تسليح الآخرين ليقوموا بدور حماية مصالحه. وعلى الصعيد الداخلي يتطلب ذلك امتلاك السلاح.
وكان من تبعات ذلك، جنوح قطاع واسع من المواطنين لحيازته. ولو سألت مواطنا أمريكيا من الجنس الأسود عن سبب حيازته سلاحا لقال: الدفاع عن النفس. وقد انتشر السلاح في أمريكا حتى تجاوزت كمياته عدد سكان الولايات المتحدة، ويقدر بأكثر من 300 مليون قطعة، وأن هناك 120 قطعة لكل 100 مواطن. لذلك تتكرر المجازر ولا تحرّك الطبقة الحاكمة ساكنا للتصدي لأسبابها الحقيقية، وعلى رأسها ما تم الإشارة إليه. وقد اعتادت الدول على تغيير قوانينها او وضع قوانين جديدة عندما تحدث جرائم خطيرة، ولكن ذلك لا يحدث في أمريكا. فحتى الآن يرفض الجمهوريون الذين يمثلون الروح الأمريكية الإمبريالية تغيير قانون امتلاك السلاح، برغم تكرار المجازر التي تحدث بسبب انتشار السلاح بشكل قانوني. إنه قانون وضع قبل أكثر من 300 سنة، وينص على حق امتلاك السلاح بشكل قانوني، وهذا الحق لا يجوز المساس به، برغم ما يترتب عليه من قتل جماعي.
هذه العقلية لا تنسجم مع جانب آخر من الثقافة الأمريكية يتمثل برفض الإجهاض. فمن جهة هنا يبدو الحرص على حماية الروح، ومن جهة أخرى يتم استرخاصها بالسماح لأدوات الموت بالانتشار. إنه تناقض بين الحرص على الحق في الحياة والحق في إنهائها. وطوال العقود الماضية تغلبت نزعة الموت على الحياة لدى الإدارات الأمريكية.