للأمكنة كما الأزمنة شخصيات معنوية. فأن يُطلق على مكان أنه أرض مباركة ومقدّسة وأن بركتها تطال العالم: "باركنا فيها للعالمين"، فهذا يمنح "فلسطين" مكانة خاصّة، ويخلع عليها صفات القيم والملامح والشخصية المعنوية! وإذا كانت النصوص الدينية قد ذكرت هذه الصفات لفلسطين، فإننا نجد مصداقيتها أيضًا، في حوادث التاريخ، كما في انطباعات الرحّالة والجغرافيين، كما في تجارب البشر والشعوب التي سكنت المكان؛ ما يؤكد هذه الصفات والشخصية المعنوية.
تناقلت الأجيال مقولة: أن هذه الأرض "لا يعمّر فيها ظالم"، وهي أيضًا أرض مقدّسة لا يموت فيها سر، فهي تظهر الخبيء وتكشفه. ومن بركتها أن الزرع فيها ينبت على الندى في سنوات انحباس المطر!
لعل صفة "القداسة" هي أكثر ما تشتهر به بلادنا. والقداسة هنا تعني "الطهارة"، ولهذه الطهارة وظيفة "التطهير" فهي ليست طاهرة بذاتها فقط، وإنما لها خاصية التطهير ولفظ الخبث وكشف الزيف والباطل، ويتجلّى ذلك بالأخصّ في تلك المراحل التي يبلغ فيها البشر درجات من الضلال والاعوجاج والانحطاط.
فهي ميدان صراع للحق مع الباطل والخير مع الشر... هنا انتصر داود الفتى على جالوت الجبار، هنا أيضًا وقفت الشمس قبل المغيب لتستمر المعركة حتى ينجلي غبارها عن انتصار أهل الحق. وهنا سار المسيح عليه السلام على ماء بحيرة طبريا... وهنا أيضًا مرّ الغزاة من الشرق إلى الغرب وبالعكس... هنا كانت المواجهات الكبرى في التاريخ... من هنا عبرت جيوش تحتمس، والأشوريون، والبابليون، ونبوخذ نصّر، وقورش، والاسكندر المقدوني، ويوليوس قيصر، وكسرى، وجودفري، وبلدوين، والمغول، ونابليون، بونابرت، واللنبي، وموشيه ديان، وبن غوريون.
هنا دخل عمر بن الخطاب مع جيوش المسلمين مهلّلين مكبّرين، وهنا أوقف صلاح الدين الأيوبي المدّ الصليبي، وهنا أوقف قطز ويبيرس موجة الزحف المغولي العاتية، وهنا نهض الشيخ عز الدين القسام، وورثه الأبناء والأحفاد في كتائب القسام وباقي قوى المقاومة والثورة الفلسطينية في مناهضة الصهيونية والاستعمار، وفي هذا المكان ستندحر "إسرائيل" وفيه أيضًا ستبطل فتنة الدجّال الكبرى، وفيها أيضًا سينزل المسيح لتدشين فردوس أرضي يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا... وهذه الأرض أيضًا وأيضًا ستكون أرض المحشر والمنشر!!
هذا مكان "غرائبي وعجائبي"؛ كما وصفه كثير من الرحّالة والجغرافيين والمؤرّخين وكاتبوا السِّيَر الذين عبروه... وأخبرنا القرآن أيضًا أن هذا المكان شهد مشاركة الجبال والطير الدعاء مع النبي داود "يا جبال أوّبي معه والطير..." وفيه أيضًا سخّر الله الرياح والجن والطير والهدهد والنمل لسليمان عليه السلام.
نقل الكاتب والباحث الفلسطيني هاني المصري في مقال له في جريدة القدس المقدسية في مطلع عام 2018 عن أحد عابري هذا المكان، وكان دبلوماسيًّا لإحدى الدول الأوروبية في بلادنا، قوله: عجيبون أنتم أيها الفلسطينيون وعجيبة بلادكم، إن أي حدث ولو كان صغيرًا يحدث في بلادكم يحظى باهتمام كاسح وطافح من قبل الرأي العام في بلادنا، وهو لا يشبه في ذلك ما يحدث من أحداث جِسام تجري في العالم العربي من حولكم، أو في باقي أنحاء العالم! وهذا بالضبط ما يلاحظه جميع المراقبين وحتى الناس العاديون في حوادث كثيرة مرّ بها النضال الفلسطيني، ولن يكون آخرها حادثة اغتيال الصحافية شرين أبو عاقلة. هذه الحادثة التي لم تبقَ دولة من دول العالم، ولا هيئة دولية او إنسانية لها صلة بقضيتنا، أو حتى من دون أن تكون لها مثل تلك الصلة، إلا وانتفضت وأعلنت عن حنقها وضيقها وغضبها، وكأن الحدث الفلسطيني أصبح المرآة الأخلاقية التي تجعل العالم ينظر إلى نفسه من خلالها! مع أن أحداثًا كثيرة مشابهة وربما أشد وطاة، تحدث في هذا المكان او ذاك من العالم الواسع، وكنه، ومهما عظم، لا يحمل درجة التأثير ولا درجة الشحن، ولا الدروس والعبر التي يمكن أن يعبّر عنها ويكثّفها الحدث الفلسطيني الحي والناطق.
إن جريمة اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة، تعيد التذكير المارّين بفلسطين وبأخبارها وأحوالها وحكاياتها، بأننا هنا أمام مكان ملحمي. الملحمة فيه قائمة ومتصلة والأجيال فيها تورث الأجيال، وما شيرين أبو عاقلة إلا بنت جيل من أجيال تلك الملحمة، قضت وهي تناوب في هذا المسير الملحمي الحي والمستمر والمتواصل... وهذه السمة الملحمية غدت سمة النضال الفلسطيني الأساسية.
نحن في ملحمة مفتوحة، لا تنتمي إلى الأساطير، وإن كانت تشبه الأساطير، فهي منقولة ومبثوثة بالصوت والصورة، في ملحمة مفتوحة منذ قرن ونيّف، ولا تزال فصولها تتعاقب حتى يأتي يوم الخلاص الأخير الذي نرى إرهاصاته تدقّ أبواب التاريخ بقوة وعنفوان.