بعد سلسلة من العمليات التي استهدفت إسرائيليين من قبل مقاومين فلسطينيين، كان آخرها العملية في قرية المزيرعة الفلسطينية المدمَّرة والمقام عليها مغتصبة «إلعاد» الإسرائيلية، أطلق المتطرف إيتمار بن غفير مطالبة عاصفة للحكومة الإسرائيلية باغتيال قائد «حماس» في قطاع غزة يحيى السنوار، والتي سرعان ما توبعت بردّات فعل صاخبة على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
والغريب أن المطالبة وجدت صدى لدى رئيس الحكومة نفتالي بينيت، الأمر الذي تطلب تدخلاً سريعاً من قبل المستوى الأمني، بشقَيه: الأجهزة الأمنية والجيش، ليردّ على المطالبة فوراً، موصياً المستوى السياسي، أيْ الحكومة، بعدم اتخاذ قرار باغتيال السنوار في الوقت الحالي، والحقيقة أن وزير الجيش بيني غانتس كان قد رد على سؤال لهيئة البث الإسرائيلية، مساء السبت الماضي، رداً متزناً قائلاً: إن مثل تلك الأمور لا تناقش إلا في الغرف المغلقة، وكل القرارات العسكرية محكومة باعتبارات أمنية وتناقش في الغرف المغلقة ولا تطرح للرأي العام، قاطعاً الطريق على «شريكه في الحكم» أو رئيسه حين قال: إن الدعوات التي تطالب باغتيال السنوار ليست ملفاً سياسياً، ويجب أن تطرح في مكانها الصحيح.
والحقيقة أن بن غفير صار صوتاً قوياً يجد صداه لدى أنصار اليمين الإسرائيلي، وكاد بينيت اليميني أصلاً يستجيب لمطلب اليمين المتطرف، لولا تدخل المؤسسة الأمنية التي تحسب الأمور بشكل مختلف، أو ليس وفق المعيار السياسي الذي يحكم كلاً من بن غفير وبينيت، فهي تدرك جيداً أن الحماقة الإسرائيلية المتمثلة باغتيال قائد «حماس» ستعني الدخول في حرب طاحنة تستمر أياماً وربما أسابيع أو أشهراً، تكرر تلك الحروب العديدة التي سبق لإسرائيل أن شنتها على قطاع غزة بحجة تحقيق الهدوء، وبعد أن تحدث الدمار الهائل وترتكب جرائم الحرب تعود دون أن تجرؤ على احتلال القطاع، بل ودون أن تسقط حكم «حماس» في غزة، بل بعد أن تحقق له انتصاراً معنوياً، يعزز من نفوذ «حماس» ليس في غزة فحسب، بل وبين صفوف الفلسطينيين أينما كانوا ووجدوا.
لكن ليس بن غفير فقط الذي يسعى لإشعال الحرب من أجل أن يكون بطلاً فيها، بل هناك نفتالي بينيت الذي وجد نفسه في ورطة حقيقية بعد سلسلة عمليات المقاومة التي قام بها شبان أفراد، دون أن يكونوا منتسبين لا لـ»حماس» ولا لغيرها، وذلك بعد التطاول الذي قام به بن غفير ورعته شرطة وجيش بينيت في القدس خلال شهر رمضان، وهذا ورد بشكل صريح في وصية أحد منفذي عملية «إلعاد»، التي سببت حرجاً لبينيت الذي شعر بأن روحه السياسية باتت معلّقة برأس السنوار، فوجد في الدعوة لاغتيال الرجل مخرجاً من الحرج، وذلك بعد أن فشلت إسرائيل في القبض على الشابين اللذين لم يتجاوزا العشرين عاماً من العمر، لثلاثة أيام متتالية.
وقد اتضحت حاجة بينيت للتعلّق بالقشة التي تنقذه من الغرق، حين تقدم بنفسه، أول من أمس، ليتصدر مؤتمراً صحافياً يعلن ويشرح طريقة القبض على المقاومَين اللذين تصرفا بشكل فردي، من الواضح أنه يدل بشكل قاطع على مدى الاحتقان الذي وصل إليه الشعب الفلسطيني.
المهم أن إسرائيل تكرر ما سبق أن فعلته قبل أكثر من عشرين عاماً، حين كانت تعاقب السلطة فتقوم بشن الغارات على قوات الأمن الوطني وأجهزة أمن السلطة بعد العلميات التي كانت تقوم بها «حماس» من غزة، واليوم ينطلق المقاومون من جنين وغيرها وينفذون عملياتهم داخل الخط الأخضر، ولا علاقة لهم بـ»حماس»، لكن إسرائيل تريد «شماعة» أو عنواناً توجّه له جام غضبها الناجم عن فشلها الأمني أولاً، وعجزها السياسي عن رؤية ما هو أبعد من أنفها ثانياً!
أولاً: لا يحق لإسرائيل لا تنفيذ عمليات الاغتيال الميداني، ولا ممارسة العقاب الجماعي، بما في ذلك تدمير منازل عائلات المقاومين. والمقاومون أنفسهم ما هم إلا أسرى حرب، وهم حين يتم أسرهم يجب على إسرائيل أن تعاملهم وفق قوانين جنيف، لا أن تحاكمهم وفق قوانينها الاحتلالية. وثانياً: لا يحق لإسرائيل أن تتهم لا «حماس» ولا غيرها أو أن تحمّلها مسؤولية تلك العمليات الناجمة أصلاً عن الاحتلال، ثم عن الممارسات اليهودية المتطرفة خاصة في «الحقل الديني»، ولم تمض سوى بضعة أيام على تلك المشاهد القاسية لاقتحامات المتطرفين في الحرم القدسي الشريف وفي الحرم الإبراهيمي.
ثم إن اغتيال القادة عادة ما ينمّ عن استعراض سياسي، فهو لا يؤدي، خاصة بعد أن اشتد عود التنظيمات الفلسطينية، إلى ضعفها أو تبدّدها، بل على العكس، يؤدي إلى ازدياد التفاف الشعب الفلسطيني حولها، وقد حدث ذلك حين اغتالت إسرائيل عدداً كبيراً من قيادات الشعب الفلسطيني على مدار العقود الماضية، من الصف الأول في حركة «فتح»، ومن قيادات «الشعبية»، ثم من قيادات «حماس»، فاستمرت «فتح» قائدة للشعب الفلسطيني، بعد استشهاد أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، ثم أبو جهاد، ومن قبلهم أبو صبري وماجد أبو شرار، فيما ظلّت الجبهة الشعبية على الطريق المباشر نحو فلسطين رغم اغتيال غسان كنفاني وأبو علي مصطفى، أما «حماس» فقد رفعت رأسها عالياً عقب اغتيال أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب وأحمد الجعبري وإبراهيم المقادمة.
كل هذا ناهيك عن المحاولات الفاشلة التي ترتد وبالاً على إسرائيل نفسها، مثل محاولاتها لاغتيال محمد الضيف، فيما مجرد التفكير بهذه الطريقة يؤكد أن إسرائيل عصبية، تفتقر للتعقل وتجريب، ولو مرة واحدة، البحث في الأسباب الحقيقية للتوتر القائم، وفي الطريق الأقصر للتعايش مع الشعب الفلسطيني، بمغادرة العقلية العنصرية، التي لا تساوي بين قتلاها وقتلى الآخرين، ولا تساوي بين البشر، على جانبَي الحدود، فتغضب حين يُقتل أحد مواطنيها، بينما لا تقر بردّة الفعل نفسها لدى غيرها حين تقتل هي مقابل قتيل واحد منها العشرات من الشعب الفلسطيني، وقد آن الأوان، على أقل تقدير لمطالبة العالم بأن يساوي بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الحياة وفي الموت، بحيث يسعى الجميع للتعايش على قاعدة من المساواة بين البشر دون تمييز.
(الأيام الفلسطينية)