قضايا وآراء

ذكرى الثورة السورية.. مفاهيم لا بد منها

1300x600
بدت ذكرى الثورة السورية مختلفة هذه السنة؛ ليس فقط قياساً للذاكرة العصية على النسيان، التي أظهرها السوريون بالمناسبة في الداخل والشتات، وإنما لتزامنها مع الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أعاد القضية السورية العادلة إلى دائرة الضوء وعناوين الصحف ووسائل الإعلام العالمية، من باب عرض جرائم الغزو الروسي لأوكرانيا وإبداء الندم والاعتذار للسكوت عن الجرائم المماثلة في سوريا.

بداية ثمة مفاهيم متعلقة بالثورة السورية النبيلة لا يمكن أبداً القفز فوقها، وقاعدتها الأهم أنها عادلة ومحقة ضد نظام الاستبداد والفساد الذي أمّم أولاً كل شيء لصالح السلطة الحاكمة في عهد الأسد الأب، ثم خصخص ما أمّم لصالح العائلة (العصابة) الحاكمة في عهد الأسد الابن ضمن تكريس توارث السلطة وتحويل الجمهوريات إلى ملكيات مقنعة.

النظام نفسه كان قد فشل في امتحان بل امتحانات الخبز والحرية والكرامة، وقبل ذلك وبعده امتحان فلسطين القضية العادلة التي استغلها كبقية أنظمة الاستبداد والفساد لقهر وإذلال وإفقار الناس، وفق الشعار الكاذب سيئ الصيت "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مع الاحتلال الإسرائيلي لتحرير فلسطين.
النظام نفسه كان قد فشل في امتحان بل امتحانات الخبز والحرية والكرامة، وقبل ذلك وبعده امتحان فلسطين القضية العادلة التي استغلها كبقية أنظمة الاستبداد والفساد لقهر وإذلال وإفقار الناس، وفق الشعار الكاذب سيئ الصيت "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"

في السياق لا بأس من التذكير بأن النظام وصل إلى السلطة أساساً بالانقلاب والقوة الجبرية المسلّحة بحجة إزالة أثار النكبة الأولى (1948)، وبعد سنوات قليلة فقط على وصوله للسلطة (1967) تسبب بنكبة ثانية أدت إلى احتلال كامل فلسطين التاريخية، إضافة إلى هضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، بينما رقّى حافظ الأسد نفسه بعدها بانقلاب آخر من وزارة الدفاع إلى رئاسة الجمهورية.

إلى ذلك لا بد من التأكيد على أن الثورة السورية تعبّر عن المزاج السوري العربي العام، وهي تشبه تماماً الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن، وتعد امتدادا طبيعيا لها كونها اندلعت ضد نفس المنظومة المتشابهة، بينما تختلف درجة بشاعتها فقط. ولا شك أن نظام الأب والابن في سوريا هو الأكثر بشاعة حتى من نظام معمر القذافي الساقط في ليبيا، نظراً للطابع الأمني- الطائفي له، ما يفسر من جهة أخرى اتباعه الخيار العسكري والنموذج المصراتي التدميري ضد الشعب الثائر، كما رأينا في حمص وحلب ومدن سورية أخرى، عكس النموذج المصري التونسي الذي اتبعه نظاما حسني مبارك وزين العابدين بن علي.

وبناء عليه يمكن الاستنتاج بل التأكيد على أن النظام البشع سقط وانتصرت الثورة السورية منذ أن خطَّ أطفال درعا بأناملهم الرقيقة "يسقط الديكتاتور"، وحتى منذ نزول ملايين المصريين إلى ميدان الثورة في القاهرة، ومنذ أن أحرق الشهيد محمد بوعزيزي جسده الطاهر مشعلاً النار في السياق بمنظومة الاستبداد العربية كلها التي حكمت ما بعد الاستقلال، سواء بشكلها الناعم أو حتى الخشن.
النظام البشع سقط وانتصرت الثورة السورية منذ أن خطَّ أطفال درعا بأناملهم الرقيقة "يسقط الديكتاتور"، وحتى منذ نزول ملايين المصريين إلى ميدان الثورة في القاهرة، ومنذ أن أحرق الشهيد محمد بوعزيزي جسده الطاهر مشعلاً النار في السياق بمنظومة الاستبداد العربية كلها

ومن هنا لم يكن غريباً بدون أدنى شك انتصار الثورة السورية على النظام وآلته القمعية، رغم جرائم الحرب التي ارتكبها من القتل إلى التهجير والتدمير واستخدام كافة أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، بما في ذلك البراميل المتفجرة باعتبارها اختراعا حصريا للنظام البشع والبغيض.

بعد ذلك انتصر الشعب الثائر على المليشيات والحشود الشعبية الطائفية الموتورة، وعلى إيران وحرسها وضباطها وجنودها وخبرائها. والانتصار المعنوي الأهم كان على الحشد الشعبي الإعلامي الناطق بالعربية، عبر نسف روايته المبنية على تزوير الحقائق وشيطنة الثورة السورية وملايين السوريين المدنيين العُزّل إلا من إيمانهم بقضيتهم وعدالتها في مواجهة النظام الاستبدادي الساقط.

روّج الحشد الشعبي الإعلامي وفي سنوات تقدم الثوار؛ مصطلح سوريا المفيدة التي أسماها الأسد الابن المتجانسة (الطائفية) فيما بعد، لتبرير مشاركته جرائم النظام رغم أن سوريا المفيدة بالثروات الطبيعية من ماء وغذاء ونفط هي تحت الاحتلال الأمريكي وإدارة الجناح السوري لتنظيم بي كا كا، علماً أن النظام استقدم الغزاة والاحتلالات على أنواعها وأشكالها للبقاء شكلاً ولو فاقد السيادة في السلطة.

بعد فشل إيران ومليشياتها تم استجداء روسيا لاحتلال سوريا، علماً أنها أنقذت أو حمت النظام مؤقتاً مرحلياً وتكتيكياً، وبالتأكيد ليس استراتيجياً في ضوء نهايته الحتمية ولو بعد حين، خاصة مع الفشل المتتالي للمعادلات الشيطانية التي ابتدعها هو وشبيحته المتضمنة الأسد أو نحرق البلد، والأسد أو نحرق المنطقة، بينما وصل الجنون والانفصام بأصحابها ذات يوم حتى لتوسيعها والقول الأسد أو نحرق العالم.
شهدنا محاولات يائسة لإحيائها وإعادة إنتاجها عبر نماذج عبد الفتاح السيسي في مصر، وبشار الأسد في سوريا، وخليفة حفتر في ليبيا، وأخيراً قيس سعيد في تونس

الثورة السورية هي بالتأكيد أيضاً كاشفة ويتيمة، كما الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، والذي تعاطى معه العرب تماماً كإخوة سيدنا يوسف، حيث شهدنا تخليا عربيا عنه رغم بدايات جيدة واكبت صعود الثورات الأصيلة في الحواضر العربية؛ من القاهرة إلى تونس وطرابلس وصنعاء، ومع انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 في القاهرة، والثورة المضادة التي طغت بعده وفضحت المواقف العربية الرسمية وأظهرتها على حقيقتها؛ لجهة التعاطي مع نظام الأسد كجزء من منظومات الاستبداد التي أسقطتها الثورات. ومن هنا شهدنا محاولات يائسة لإحيائها وإعادة إنتاجها عبر نماذج عبد الفتاح السيسي في مصر، وبشار الأسد في سوريا، وخليفة حفتر في ليبيا، وأخيراً قيس سعيد في تونس.

الغزو الروسي لأوكرانيا كان مناسبة على تأكيد الازدواجية الغربية والدولية؛ ليس فقط تجاه القضية الفلسطينية وإنما السورية، علماً أن الغزو الروسي لسوريا تم بناء على ضوء أخضر أو برتقالي من أمريكا والغرب عبر جون كيري، وزير خارجية الرئيس باراك أوباما، الذي هدّد الثوار علناً بروسيا وقوتها الغاشمة والساحقة للالتحاق بالعملية السياسية تحت سقف آلية فيينا وحكومة الوحدة الوطنية للمبعوث ستافان ديمستورا، والتفاهم الأمريكي الروسي على مذبح الاتفاق النووي سيئ الصيت مع إيران.

في الازدواجية الغربية لا بد من التذكير كذلك بتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العلني الذي اعتبر فيه أنه لا مشكلة لديه مع بشار الأسد، كون هذا الأخير لا يقتل الفرنسيين وإنما شعبه فقط، بينما انتفضت أوروبا نسبيا فقط بعد أزمة اللاجئين السوريين، وباتت معنية فقط بمنع وصولهم عبر معالجة العرض لا المرض المتمثل ببشار الأسد ونظامه الإجرامي.
في الازدواجية الغربية لا بد من التذكير كذلك بتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العلني الذي اعتبر فيه أنه لا مشكلة لديه مع بشار الأسد، كون هذا الأخير لا يقتل الفرنسيين وإنما شعبه فقط، بينما انتفضت أوروبا نسبيا فقط بعد أزمة اللاجئين السوريين

ارتكبت روسيا جرائم حرب موصوفة وأخرى ضد الإنسانية في سوريا، وجرّبت آلتها الحربية الحديثة، بذهنية القرون الوسطى وأسلحة القرن الواحد والعشرين، ثم اتبعت نفس التكتيكات العسكرية في أوكرانيا من قبيل حصار المدن وقصف المؤسسات المدنية والبنى التحتية، بما في ذلك المستشفيات لإجبار سكانها على الاستسلام أو النزوح.

جرائم حرب موصوفة تقول إسرائيل -عن حق حتى لو يُراد به باطل- إن روسيا لن تستطيع مواصلتها في سوريا ولا حتى هي نفسها في غزة وفلسطين، رغم الدعم الغربي والنفاق، والازدواجية لصالحها.

وعموماً قطع الغزو الروسي لأوكرانيا الطريق فعلياً على مساعي التطبيع العربي مع نظام الأسد، بما في ذلك محاولات إعادته للجامعة وخطوات الإمارات الموتورة الأخيرة هي أساساً ضد الثورات الأصيلة، والاستعانة بإسرائيل لتعويم نظام الأسد لن تجدي، علماً أن هذه المحاولات تجرى كخطوة تقرّب من روسيا ومكايدة للغرب الذي وعلى علاّته ونفاقه لن يسمح بتعويم النظام أو إضفاء الشرعية عليه إقليمياً ودولياً.

أخيرا، لا بد من التأكيد كما دائما أن الشعب سينتصر في سوريا كما سينتصر في فلسطين، والثورات الأصيلة ستعود إلى سكّتها الصحيحة وتدحر تلك المضادة ولو بعد حين. ببساطة واختصار كون إرادة الشعوب من إرادة الله، وعندما تريد الحياة فحتماً يستجيب القدر.