قضايا وآراء

خلقَنَا الله تعالى دون أن يستشيرَنا أو يخيّرنا في وجودنا.. لماذا يحدث هذا؟

1300x600
تتردّدُ أسئلةٌ على ألسنة شريحةٍ من الشباب عن خلق الله تعالى لنا.. لماذا خلقنا دون أن يستشيرنا؟ لماذا لم يخيّرنا قبل أن يخلقنا؟ ولو استشارَنا وخيّرَنا لاخترنا البقاء في العدم من القدوم إلى هذه الورطة.. لماذا خلقَنا الله تعالى أصلاً؟ ماذا يريدُ من ذلك؟

هذه الأسئلة لا تنطلق من محاولة البحث عن الهدف من الوجود في الحياة، بل منطلقها هو الاعتراض على فعل الله تعالى المتمثّل بخلق الإنسان في هذا الكون، وعادةً ما تثور في ساعات الشّعور بانسداد الأفق، واللا جدوى، والإحباط واليأس؛ فهي ليست متعلّقة بذات السّائل أو موجهة له بل متعلّقة وموجهة إلى ذات الله تعالى.

مَن يسألُ مَن؟ ومَن هو صاحبُ الأمر؟

من أهمّ المقدّمات المنهجيّة في التّعامل مع هذه الاعتراضات هو معرفةُ الإنسان مكانَه ومكانته، وأن يرى موضع قدميه ومنتهى وصول هامته، فهو في النّهاية مخلوق بين يدي خالق، وعلاقتُه مع هذا الخالق أنّه عبدٌ لا يملكُ أن يتدخّل في حيّز القرارات التي هي من اختصاص الإله.

الله تعالى بيّن في كتابه أنّه هو صاحب الأمر في الخلق، وأنّ هذه القضيّة المتعلّقة بالخلق والإيجاد تدخل في حيّز اختصاصات الإله، فقال تعالى في سورة الأعراف: "أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ".

وفيما يتعلّق بهذا النّوع من الأعمال التي تدخل في حيز الاختصاص الحصري لله تعالى، فالإنسانُ لا يملكُ أن يسأل الله تعالى لماذا فعلتَ ذلك؟ عندها يكون قد أدخل نفسه فيما لا دخل له فيه، ولا يحقّ له ابتداءً أن يسأله، بل إنّه بمنطق العلاقة بين الخالق وعبده هو من يخضع للسؤال لا العكس، فالله تعالى ليس محلّ السؤال بل الإنسان هو محلّ السّؤال، وقد بيّن الله تعالى ذلك إذ يقول في سورة الأنبياء: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ".

إنّ استبطان الإنسان في نفسه معنى من معاني الألوهيّة الزّائفة من حيثُ لا يشعرُ في كثيرٍ من الأحيان هو الذي يدفعه إلى التّعامل الإنكاريّ بمنطق النديّة مع الله جلّ في علاه، ويقوده إلى الاعتراض النديّ الذي لا يملكه ابتداء.

ولا يجعل الإنسان يتطامن أمام عظمة الله تعالى ويتواضع في نفسه وعقله سوى استشعاره حقيقة العبوديّة التي يصطبغ بها بين يدي الله تعالى الذي له وحده الخلق والأمر.

ومن مقتضيات هذا التّواضع النّفسي والعقلي أن يوقن المخلوق أنّ حدود معرفته قاصرة، فهو لا يعلم عن إرادة الله تعالى من خلق الخلق إلا ما أراد الله تعالى له أن يعلمه، بينما يعلم الله تعالى عن مخلوقه كلّ شيءٍ أعلنه وأسرّه. وقد بيّن لنا ربّنا تبارك وتعالى ذلكَ حكايةً على لسان عيسى عليه الصّلاة والسّلام في سورة المائدة: "قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ".

لو استشارك لما كان إلهاً

الاستشارة هي طلبُ الرّأي ممّن هو أهل له، وتتضمّن الاستشارة معنى الاحتياج إلى الآخر، وهذا الاحتياج هو نوعٌ من النّقص، لذلك كانت الاستشارة محمودةً في حقّ الإنسان المجبول على القصور وعلى النّقص، فهو يسدّ ثغرات نقصه العقليّ باجتماع عقول الآخرين إلى عقله وانضمام آرائهم إلى رأيه.

أمّا الاستشارةُ في حقّ الله تعالى فهي محالةٌ، لأنّه منزّه عن النّقص والقصور والاحتياج إلى رأي أحدٍ من خلقه؛ سبحانه.

فالسّؤال إذن يغدو غير منطقيّ وغير ممكن؛ لأنّ الله تعالى لو استشاركَ قبل أن يخلقكَ لما كان إلهاً أصلاً.

كيفَ يخيّرُكَ وقد خلقك؟

ومن أعجب الأسئلة الاعتراضيّة التي تأتي للإنسان في لحظة شعوره بالإحباط واليأس: لماذا لم يخيّرني الله تعالى؟ ألستُ حراً مختاراً؟

وهذا سؤال يحمل في بنيته تناقضاً يقود إلى نقضه أصلاً، فمتى يخيّرُك؟ وأنتَ عدَمٌ قبلَ أن تُخلَق؟ أم يخيّرُكَ بعدَ أن خلقك؟

أمّا التخيير قبل الإيجاد فإنّه متعذّرٌ لأنّكَ غير موجود أصلاً، وأمّا التّخيير بعدَ الإيجاد فما فائدته وقد انتهى الأمر؟ لو خيّرك بعدَ أن أوجدكَ لكان هذا التّخيير نوعاً من العبث الذي لا فائدة ولا طائل منه، والله تعالى منزّه عن العبث سبحانه، فلو مارس العبث لما كان إلهاً.

إذن كيف أتعامل مع المشهد؟

من الضّرورة بمكان ألا تدفعكَ ساعة اليأس والإحباط والشّعور باللا جدوى؛ إلى الإغراق في الأسئلة التي تمثّلُ نوعاً من الهروب عبر دغدغة العواطف تحت ستار من التفكير العقليّ الوهميّ.

لقد وُجدتَ في هذه الدّنيا وانتهى الأمر، ولا طائل من التفكير الاعتراضيّ الموجّه إلى الله تعالى حول سبب إيجادك وعدم تخييرك، فكلّ هذا لن يغيّرَ في الواقع شيئاً، وكلّ هذه الأسئلة لن يكون لها أثرٌ عمليّ على حياتك التي لا تتوقّف، سوى أنّها ستدخلك في دوامة الاعتراض والجدل الذّاتي الذي ينسيك نفسك التي تسير في طريقها إلى نهايتها دون أن تشعر.

المنطق العقليّ يفرض عليك أن تفكر بالأسئلة التي تؤثّر في رسم قناعاتك القلبيّة والعقليّة وتصنع سلوكك ومنهج حياتك، وهذه الأسئلة هي الموجّهة إلى ذاتك أنت لا إلى ذات الله تعالى. الأسئلة التي عليك أن تجيب عنها وتحل العقدة الكبرى في النفس الإنسانيّة: من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟ عندها يكون لتفكيرك أثرٌ ومعنى، وعندها ستجد السّكينة إلى قلبك وعقلك طريقها.

twitter.com/muhammadkhm