مع دخول الحرب الروسية ضد أوكرانيا يومها الرابع، فإن وزير الخارجية الأوكراني خرج بتصريح مثير، دعا فيه كل المتطوعين ممن يريدون أن يلتحقوا بالحرب ضد روسيا، إلى أن يتصل بالتمثيليات الدبلوماسية لبلاده، لتيسير عملية استقبالهم في أوكرانيا للمشاركة في جهود تحريرها من الغزو الروسي.
في أجواء الحرب، يصعب أن تقرأ التصريحات بمعزل عن وظيفتها كجزء من الأسلحة المستعملة في الحرب، فالحرب النفسية والإعلامية، أضحت اليوم أكثر فتكا حتى من الأسلحة الجد متطورة، لكن، ما هو مثير فعلا، أن العواصم الغربية، لم تعلق على هذه الدعوة، ولم تبد أي اعتراض عليها، بل إن الدول الأوروبية، التي طالما حذرت أنقرة من وصول اللاجئين السوريين إلى أراضيها عبر الحدود التركية، بحجة الخوف من أن تصير أوروبا بؤرة للإرهابيين، لم يصدر عن مسؤوليها أي موقف يحذر من خطورة هذه الخطوة وتداعياتها المستقبلية على الأمن الأوروبي.
فلم يسجل إلا دعم من قبل وزارة الخارجية البريطانية والدنمارك، لا يُعلم على وجه التحديد المقصود به، هل هم الأوكرانيون المقيمون ببريطانيا والدنمارك، أم كل من يريد الالتحاق بساحة القتال في صف أوكرانيا؟
الخطوة بدأت بدعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كل الأجانب الراغبين في الانضمام إلى مقاومة المحتلين الروس وحماية الأمن الدولي، للمجيء إلى بلاده والالتحاق بصفوف الجيش، وقد أصدر مرسوما في هذا الموضوع، يقضي بتشكيل فرقة دولية من المتطوعين تابعة للجيش، وذلك حتى تتحول الحرب ضد روسيا من حرب شعبية إلى حرب دولية.
ثم جاءت الخطوة الثانية تفسر طريقة تنفيذ المرسوم، إذ دعا وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، هؤلاء إلى الالتحاق بالقنصليات والسفارات ألأوكرانية في بلدانهم، لتزويدهم بالمعلومات الضرورية لتسهيل وصولهم إلى أوكرانيا، متحدثا في هذا السياق عن تلقي هذه التمثيليات الدبلوماسية المئات من الطلبات من أجانب للمشاركة في التصدي للغزو الروسي، مؤكدا أنه سيتم تسهيل التحاقهم بالجيش.
وزير الخارجية الأوكراني، وسع في تصريحه مفهوم المتطوعين، فأدخل ضمنهم، ليس فقط الذين يريدون القتال ضد روسيا دفاعا عن وحدة أراضي أوكرانيا، بل ضم إليهم حتى "الذين لهم ثأر أو حسابات ضد روسيا" بغض النظر عن مصالح أوكرانيا، واعتبر أن المشكلة قد حلت تماما بوجود إطار قانوني يمكن هؤلاء من الانضمام إلى الجيش الأوكراني.
المثير في الموقف ليس فقط عدم تعليق أو اعتراض دول الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، بل لم يصدر أي تعليق حتى من الدول التي يفترض أن سفارة أوكرانيا أو قنصليتها تلقت طلبات بها في هذا الشأن، لأن هذه العملية، أي التحاق مقاتلين متطوعين من دول أخرى إلى أوكرانيا، لا تكفي فيها الرغبة والإرادة من قبل أوكرانيا، بل لا بد أن تحظى بقبول المجتمع الدولي، وموافقة الدولة التي منها يخرج المتطوعون للقتال.
مجاهدو أفغانستان، ومتطوعو أوكرانيا.. المشترك في الحالتين
بعض الباحثين طرح سيناريوهات مشابهة لما تم في أفغانستان، عندما شجعت الولايات المتحدة الأمريكية وصول المتطوعين للقتال إلى جانب أفغانستان من أجل مواجهة الاحتلال السوفييتي لبلادهم سنة 1979، إذ استمر الدعم لأكثر من عقد من الزمن حتى انسحاب السوفيات سنة 1992، بل حتى إسقاط الحكومة الموالية لموسكو في التسعينيات.
يستدل هؤلاء بإمكان تكرار هذه التجربة بصيغة أخرى، لكونها تمثل الخيار الأفضل المريح لأمريكا، إذ لا يكلفها مواجهة مباشرة مع روسيا، فواشنطن أعلنت حتى قبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، أنها لن ترسل مقاتليها إلى كييف، وهي تخطط- في نظر من يطرح هذا السيناريو ـ أن تستنزف روسيا في حرب مستمرة، لا تقوى فيها على الحسم، وأنها في سبيل ذلك، ستعمل على ثلاث واجهات: تقديم الدعم العسكري لكييف، وتيسير وصول مقاتلين أجانب لإسنادها، وتوسيع سلة العقوبات القاسية على روسيا لشل قدرتها على الاستمرار في الحرب، أو لجعل مهمتها في أوكرانيا مستحيلة.
لكن، قبل اختبار جدية هذا السيناريو، ينبغي أن يستحضر في تجربة الدعم الأمريكي للجهاد الأفغاني، ما هو مشترك، وأيضا ما هو مختلف عن الحالة الأوكرانية.
في المثال الأفغاني، كان هناك احتلال مباشر لأفغانستان، وكان هناك خطر داهم يهدد الدول العربية، كانت تتحسسه الدول العربية، بحكم الاصطفاف في المحاور العربية، ووجود تآمر متبادل بين دول مصطفة في محور موسكو، ودول أخرى مصطفة في المحور الغربي، وكان هناك مصالح استراتيجية لدولة الاستقبال والدعم
المشترك واضح، فهناك على أقل أربع نقاط اشتراك أساسية: فهناك احتلال في الحالتين، من قبل السوفييت في أفغانستان، وروسيا في أوكرانيا، وهناك ثانيا خوف في الحالتين من التمدد الروسي، اليوم خوف من التمدد الروسي في أوربا، وبالأمس كان هناك خوف من التمدد الشيوعي في العالم العربي، وكما كانت هناك حكومات داعمة ومشجعة وميسرة لوصول المقاتلين إلى أفغانستان عبر باكستان، يمكن أن يحصل الشيء نفسه، خصوصا وأن دول أوروبا الشرقية، التي تربطها حدود واسعة بأوكرانيا، يمكن أن تقوم بالدور الذي قامت به باكستان. المشترك الرابع، أن هناك توافقا استراتيجيا بين أمريكا وبريطانيا وأوروبا لإيقاف هذا التمدد، ويمكن أن يعملوا جميعا من أجل توسيع دائرة التحالف ضد روسيا كما فعلوا بالأمس ضد الاتحاد السوفياتي.
هذه العناصر الأربعة، جمعها بالأمس رهان استراتيجي واحد، هو حرب بالوكالة مع العدو، مع استثمار ذلك في تقوية الموقع التفاوضي والموقف الاستراتيجي لأمريكا وأوروبا، فيما بات يعرف في العلاقات الدولية بتكتيكات إدارة الصراع زمن الحرب الباردة.
مجاهدو أفغانستان، ومتطوعو أوكرانيا.. المختلف في الحالتين
في الجهة المقابلة، ثمة نقاط اختلاف، بل وتحديات تجعل تكرار استلهام نموذج العرب الأفغان أو تجربة الجهاد الأفغاني بصيغة أخرى في أوكرانيا (أي باستقدام مقاتلين أجانب) أمرا بالغ الخطورة.
فمن جهة، لا تمثل روسيا اليوم تحديا إيديولوجيا وسياسيا جديا للعالم العربي، فنفوذها المقلق، لا يتعدى الحالة السورية والليبية، وأقصى تحد تمثله روسيا في المنطقة هو دعمها لإيران، وهو ما حاولت عدد من الدول العربية، أن تنتج بشأنه أجوبة متعددة، كل دولة بجوابها، حتى تقلص ما أمكن حجم التحدي الأمني والسياسي الذي يمثله الدور الروسي في المنطقة العربية.
ومن جهة مقابلة، تفرض المصالح الاقتصادية دورها في تبرير حالة الحياد والتوازن في الموقف الذي التزمت به الدول العربية في تعاطيها مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، فالسعودية على سبيل المثال رفضت أن تستجيب للطلب الأمريكي بزيادة الإنتاج في النفط، بسبب التزامها مع دول "أوبك"، بل إن الأمر لا يتعلق فقط بالنفط، بل يتعلق بتوازنات مصادر الطاقة، والأمن الغذائي لهذه الدول أيضا، فأغلب الدول العربية، يرتبط جزء مهم من أمنها الغذائي بروسيا أو أوكرانيا (الحبوب)، ومن ثمة، تتضاءل نقاط التشابه بين الحالتين إلى أبعد الحدود.
حاصل الموقف عربيا، أن روسيا، لم تعد تمثل تهديدا جديا للعالم العربي، فعلى الرغم من تحالفاتها في المنطقة، والتي تثير قلقا خليجيا من تزايد النفوذ الإقليمي لإيران، وتهديدها للأمن القومي الخليجي، فإن الضرورات الاقتصادية، ومحدودية النفوذ الروسي في المنطقة، يغلب في العالم العربي خيارات الحياد أو التوازن على خيارات الاصطفاف.
أوروبيا، يمكن أن يحصل بعض التشابه، فأوروبا معنية أكثر بالقلق من التمدد الروسي، وهي تنظر إلى التدخل الروسي في أوكرانيا باعتباره الخطوة الأولى، التي إن نجحت، فيمكن أن تتلوها خطوات استعادة روسيا للمجد السوفييتي السابق، بما يعنيه استعادة حلفائها في أوروبا الشرقية.
لكن، في المقابل، تبدي أوروبا قلقا أكبر من نزوح اللاجئين، ومن موجات الهجرة إلى أراضيها، وتبني جدارا سميكا لتقوية منظومة أمنها القومي، في حال ما إذا كان النازحون قادمين من مناطق الحروب، وتتوجس من أن تصير أوروبا بؤرة للإرهاب، ولذلك لم تف أوروبا في السابق بالتزاماتها مع أنقرة في دعم استقبالها للاجئين السوريين، كما لم تلتزم مع شركائها في محاربة الهجرة السرية إليها، وكانت تتعامل معهم باعتبار مصدرا للهجرة السرية، لا اعتبارهم شركاء يعانون من الهجرة مثل ما تعاني منه أوروبا بحكم أنهم دول عبور.
الفيتو الأوروبي المحتمل
بمعنى، أن سيناريو دخول المقاتلين الأجانب إلى كييف، إذا كان من الممكن تصوره نظريا من جهة الدول الحدودية مع أوكرانيا، وبالتحديد الحديقة الخلفية السابقة للاتحاد السوفييتي، أي أوروبا الشرقية (رومانيا وبولندا وبلغاريا)، فإن هناك صعوبة في تصور مصدر مجيء هؤلاء المقاتلين، ومن هي الدول التي ستقبل الانخراط في هذه اللعبة الخطرة؟
عمليا، ثمة سابقة تكشف الموقف الأوروبي بكل ملابساته، فأوروبا أخذت درسا مهما من الحرب في سوريا، وذلك من جهتين، الأولى، من جهة تقديرها لارتفاع حجم التهديد الذي يشكله وصول اللاجئين السوريين إلى أراضيها، وتخوفها أن تتحول أوروبا إلى بؤرة إرهابية، ومن جهة ثانية، معاناتها من القدرة التفاوضية التركية، واستثمارها لملف اللاجئين السوريين في تدبير علاقاتها مع أوروبا.
ولذلك، من المستبعد جدا، أن تقبل أوروبا أن تتحول دول مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا إلى سد يمنع التمدد الروسي، فضلا عن أن تسمح بالمقاتلين من دول العالم بالوصول إليها عبر هذه الأراضي، لأن ذلك يعرض وحدتها للخطر، وسيزيد من تعميق التناقض بين مكونات الصف الأوروبي، فتظهر أوروبا الشرقية، كما ولو كانت قربانا تأكله نار روسيا، من أجل أن تنال أوروبا أمنها دون أن تفقد الغاز الروسي، فيدفعها ذلك إلى ابتزاز أوروبا الغنية، من أجل أن تنصف أوروبا الفقيرة، كما من شأن هذا السيناريو أن يعرض الأمن الأوروبي برمته للخطر، وهو ما لا يمكن وضعه في سلة، ووضع التمدد الروسي في سلة مقابلة.
يبدو سيناريو وصول المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا، مربكا أمنيا وسياسيا واقتصاديا واستراتيجيا. من الناحية الأمنية، يمكن أن تساق نماذج ليبيا واليمن سوريا والعراق، بل وحتى نموذج أفغانستان نفسه، للتدليل على أن وجود المقالتين الأجانب، يزيد الوضع الأمني خطورة، ويجعل إمكانية ترتيب خيارات ما بعد الحرب، أمرا محفوفا بالمخاطر،
في المثال الأفغاني، كان هناك احتلال مباشر لأفغانستان، وكان هناك خطر داهم يهدد الدول العربية، كانت تتحسسه الدول العربية، بحكم الاصطفاف في المحاور العربية، ووجود تآمر متبادل بين دول مصطفة في محور موسكو، ودول أخرى مصطفة في المحور الغربي، وكان هناك مصالح استراتيجية لدولة الاستقبال والدعم (باكستان)، فضلا عن علاقات استراتيجية تربطها بالسعودية، وكانت هناك إيديولوجية، تقبل التعبئة المضادة، فضلا عن أن إسلامية الدولة الأفغانية، ووجود شعور عام، بضرورة النصرة الإسلامية لها في مقاومتها للاحتلال السوفييتي.
ولذلك، اجتمعت للـ"جهاد" شرعيات ومصالح متعددة، ورأت دول مختلفة أن من مصلحتها دعم الجهاد الأفغاني بهذه الشاكلة، ولم تكن مضطرة إلى أن تفقد من جراء ذلك، جزءا مهما من مصالحها العليا، المتعلقة بالأمن الطاقي، أو الأمن الغذائي، أو متطلبات التوازن الاستراتيجي، بل على العكس من ذلك، كان دعم الجهاد الأفغاني مسايرا لمصالحها، موافقا لنظرتها الاستراتيجية، بل كان أمرا حيويا ووجوديا بالنسبة لها.
في حين، يبدو سيناريو وصول المقاتلين الأجانب إلى أوكرانيا، مربكا أمنيا وسياسيا واقتصاديا واستراتيجيا.
من الناحية الأمنية، يمكن أن تساق نماذج ليبيا واليمن سوريا والعراق، بل وحتى نموذج أفغانستان نفسه، للتدليل على أن وجود المقالتين الأجانب، يزيد الوضع الأمني خطورة، ويجعل إمكانية ترتيب خيارات ما بعد الحرب، أمرا محفوفا بالمخاطر، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال التحكم في هؤلاء المقاتلين، ولا معرفة لأي الجهات يشتغلون، ولا المقاصد التي تؤطر من حركتهم في هذا الاتجاه.
أما من الناحية السياسية، فأوروبا، لا يمكن أن تتحمل كلفة هذا القرار، لمخاطره الأمنية أولا، ثم لمخاطره على وحدتها ثانيا.
أما اقتصاديا، فمواقف أوروبا منذ اندلاع الأزمة بين روسيا وأوكرانيا حتى اللحظة التي اشتعلت فيها الحرب، تبين محدودية خياراتها، وأنها لا تستطيع المضي إلى أقصى الخيارات خوفا من أن تحرك روسيا خيارات الضرورة باستعمال ورقة الغاز الطبيعي.
أما من الناحية الاستراتيجية، فالذاكرة لا تزال تحتفظ بمآسي حربين عالميتين، ولذلك، لم تشارك أوروبا بمقاتليها في أوكرانيا، حتى لا تعطي الذريعة لروسيا لاستعمال الورقة النووية أو للتهديد بها على أقل تقدير.
تقدير تفسيري
التقدير في تفسير تصريحات المسؤولين الأوكرانيين، أن الأمر لا يعدو أن يكون ضغطا على أوروبا، من أجل مزيد من الدعم، وحتى لا يتم تقديمها قربانا للتفاوض مع روسيا لحماية مصالحها. ما يؤكد ذلك أن تصريحات المسؤولين الأوكرانيين، لم تتوقف عن الحديث بأن الغزو الروسي ليس فقط لأوكرانيا، وإنما هو بداية حرب ضد أوروبا.
عن السينما والغزو الفكري للعقل العربي.. تونس نموذجا