في خضم الحرب الإعلامية بين روسيا والغرب حول أوكرانيا ظهرت بعض التهديدات الأمريكية على لسان ضباط أمريكيين من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يدفع بأمريكا إلى تحريك أدواتها في سوريا ضد القواعد والمصالح الروسية على الأرض السورية. وقد استبشر بعض السوريين خيراً بمثل هذا التصريحات التي مازالت مجرد أضغاث أحلام.
لقد قفز إلى ذهن البعض فوراً أن أمريكا ربما تدعم جماعات في سوريا ضد الروس كما دعمت المجاهدين الأفغان ضد الغزاة السوفيات في العقدين الأخيرين من القرن الماضي وساهمت في طردهم. لكن هيهات، فالوضع في سوريا مختلف كثيراً عن الوضع في أفغانستان سابقاً.
لقد كان الصراع بين الغرب والسوفيات في ذلك الوقت على أشده وكانت أمريكا وأوروبا تعملان على ضرب الإمبراطورية السوفياتية وتحطيمها منذ عقود وعقود بشتى الوسائل الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والثقافية. وكان توريط السوفيات في أفغانستان وقتها ربما المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفياتي.
ولا ننسى أن السوفيات في ذلك الوقت غزوا أفغانستان رغماً عن أنف الغرب، لكن في الوقت نفسه استغلت أمريكا الغزو لتحول أفغانستان إلى فيتام روسية. وقد اتصل مستشار الأمن القومي وقتها بريجنسكي بالرئيس كارتر عندما دخلت أول دبابة أمريكية إلى الأراضي الأفغانية وقال له: «الآن بدأت فيتنام الاتحاد السوفياتي».
وكان بريجنسكي يعي ما يقول فعلاً، فقد كان الغزو السوفياتي وقتها القشة التي قصمت ظهر البعير، فانسحبت القوات السوفياتية بعد سنوات تحت ضربات المجاهدين المدعومين أمريكياً وصواريخهم الأمريكية من نوعية «ستنغر» التي أطاحت بأسطورة سلاح الجو الروسي وطائراته.
أما الذين يتمنون أن يؤدي الصراع الأمريكي الروسي في أوكرانيا إلى تحويل سوريا لمستنقع للروس على غرار المستنقع الأفغاني فهم يحلمون لا أكثر ولا أقل، وربما لا يعلمون أصلاً خلفيات التدخل الروسي في سوريا والضوء الأخضر الأمريكي والإسرائيلي للروس كي يدخلوا لحماية المصالح الإسرائيلية والأمريكية نفسها في سوريا.
وكي لا نبدو أننا نفتري على أحد، لا بد أن نعود مرة أخرى إلى تلك المحاضرة الشهيرة لمساعد نائب وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت أندرو أكسوم أمام الكونغرس الأمريكي، فقد قال أكسوم بصريح العبارة في شهادته أمام أعضاء الكونغرس إن أمريكا هي التي بادرت إلى دفع الروس إلى الأراضي السورية بعد أن خشيت من سقوط النظام السوري وأثر ذلك على المصالح الأمريكية في سوريا وعلى أمن إسرائيل الذي يعتبر قدس الأقداس في الاستراتيجية الأمريكية. وأكد أكسوم على أن التدخل الروسي في سوريا تم بالاتفاق بين الأمريكيين والروس بترحيب كبير من واشنطن. بعبارة أخرى، فقد كان الغزو الروسي لسوريا مصلحة أمريكية وإسرائيلية قبل أن يكون مصلحة روسية، وإلا لما حلم الروس بالوصول إلى المياه الدافئة بهذه السهولة.
ولو كانت أمريكا غاضبة من الغزو الروسي لسوريا لربما جندت له جماعات كثيرة لطرده كما طردته من قبل في أفغانستان.
لكن كما رأينا امتنعت أمريكا عن تسليح الجماعات السورية المناوئة للنظام بصواريخ مضادة للطائرات، لا بل توقفت حتى عن تزويدها بصواريخ مضادة للدروع بعد أن تم الاتفاق على تقاسم النفوذ في سوريا وتحديد خطوط التماس بين الأمريكيين والروس.
بعبارة أخرى مهما وصلت الأمور إلى ذروة التوتر بين الأمريكيين والروس، فهناك مناطق لا يمكن الخلاف حولها لأنها تمثل مصلحة مشتركة للطرفين، ولعلنا نتذكر الثنائي الشهير خلال الأزمة السورية وهما سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي وقتها، وقد كان الوزيران ينسقان كل شيء بخصوص سوريا، لا بل هناك من يتحدث عن اتفاق سري ربما يظهر للعلن ذات يوم بعنوان «اتفاقيات كيري لافروف» التي قد لا تقل أهمية وخطورة عن اتفاقيات سايكس-بيكو-سازانوف سيئة الصيت.
وهنا يجب أن نذكر بأن الروس كانوا مساهمين مع سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي اللذين قسما المنطقة العربية خدمة للمصالح الاستعمارية.
ومن أهم بنود الاتفاق الأمريكي الروسي في سوريا القضاء على جماعات المعارضة السورية، وهو ما فعلته روسيا لاحقاً، حيث دمرت معظم مناطق الفصائل المعارضة، ومن ثم أتبعتها باتفاقات استانا وسوتشي لصالح النظام وبضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي لا تخطئه عين.
وكنوع من الاعتراف بالاتفاق السري بين أمريكا وروسيا في سوريا فإن وزير الخارجية الروسي في حينه هدد بإفشاء البنود السرية في الاتفاق إذا لم تلتزم أمريكا بتنفيذه.
ولم يتوقف التنسيق الروسي الأمريكي في سوريا على لافروف وكيري، بل شاهدنا لاحقاً التنسيق الروسي الإسرائيلي على الأرض السورية، بحيث سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو إلى موسكو عشر مرات خلال فترة وجيزة لتنسيق العمليات مع الروس في سوريا.
وقد اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها ليبرمان بأن الإسرائيليين ينسقون العمليات مع الروس في سوريا أربع وعشرين ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع.
لا بل إن التقارير تحدثت عن اجتماعات إسرائيلية روسية على الأرض السورية في قاعدة حميميم التي أصبحت أرضاً روسية يستطيع الروس أن يستقبلوا فيها من يشاؤون دون إذن السوريين أصحاب الأرض الأصليين.
وقد شاهدنا الروس وهم يشحنون الرئيس السوري إلى القاعدة المذكورة ليلتقي بالرئيس الروسي أو وزير الدفاع.
لهذا يجب ألا نتحمس كثيراً للصراع الأمريكي الروسي المحتدم حول أوكرانيا وإمكانية تأثيره على الوجود الروسي في سوريا، فما يصح في الحالة الأوكرانية لا يصح في الحالة السورية، أو بعبارة أخرى، فإن الغزو الروسي لسوريا بالمنظور الأمريكي الإسرائيلي حلال زلال لأنه يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بينما الغزو الروسي لأوكرانيا حرام شرعاً لأنه باختصار يتعارض مع المصالح الأمريكية والأوروبية.
(القدس العربي اللندنية)