في سياق القراءات المعاصرة والحداثية لمنظومة الأحكام الشرعية والفقهية، تثار إشكالات كثيرة حول بعض تلك الأحكام، بدعوى أنها من وضع الفقهاء وتقريراتهم، مع عدم توفر أدلة شرعية أصلية صحيحة وصريحة تشهد لتلك الأحكام، وتنهض لإثباتها وتقريرها.
وعادة ما تُتخذ تلك الحجة شاهدا ودليلا على ضرورة مراجعة تلك الأحكام، لأنها إما تكون خاصة بزمانها وسياقاتها التاريخية، وإما أنها وُضعت باجتهادات فقهية مذهبية بشرية، من غير أن تكون مستندة إلى أدلة شرعية أصلية من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية.
في هذا الإطار انتقد الأكاديمي الفلسطيني المتخصص في الدراسات الإسلامية، بلال زرينه ما قرره الفقهاء بشأن استتابة تارك الصلاة، ذاكرا أنه من خلال دراسته الطويلة للفقه الإسلامي وجد "أحكاما تبناها الفقهاء لا تستند إلى نص شرعي من القرآن الكريم أو الحديث الصحيح".
وضرب لذلك مثالا بـ"استتابة تارك الصلاة" والتي "يعنون بها أن تقوم الدولة بسجن تارك الصلاة مدة ثلاثة أيام وتهديده بالقتل في حال أصرّ على ترك الصلاة كسلا أو جحودا"، متسائلا: "من أين استنبط الفقهاء هذا الحكم"؟
بلال زرينه.. أكاديمي فلسطيني متخصص في الدراسات الإسلامية
وأضاف زرينه في منشور له على الفيسبوك: "في القرآن لا توجد آية تتحدث عن (الاستتابة)، بل هناك عشرات الآيات تتحدث عن التوبة، {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله}، وشتان بين التوبة الاختيارية والاستتابة القهرية التي تشجع على النفاق في المجتمع"، وفق تعبيره.
وتابع: "وحتى الأحاديث لم توجد فيها هذه الاستتابة، وحتى الرواية التي جاءت بقتل المرتد قالت "من بدل دينه فاقتلوه"، ولم تقل "من بدل دينه فاستتيبوه، فإن رفض فاقتلوه"، لذلك قال ابن حزم الظاهري: المرتد يُقتل بدون استتابة، لأن الاستتابة فيها زيادة على النص".
ووفقا للأكاديمي الفلسطيني زرينه فإن "ابن تيمية في كتبه وفتاويه ذكر عبارة (يُستتاب وإلا قُتل) عشرات أو مئات المرات؛ فمن أين جاء بهذه الوصفة؟" مضيفا: "لا شك أن كل هذا ابتداع في دين الله، واتهام ضمني من الفقهاء بأن دين الله بحاجة إلى إضافات وتكميلات، مع أن مُنزله قال {اليوم أكملت لكم دينكم}.
ومن الجدير بالذكر أن المراجع الفقهية بحثت مسألة استتابة المرتد عموما، وتارك الصلاة خصوصا، فـ"تارك الصلاة لا يخلو؛ إما أن يكون جاحدا لوجوبها، أو غير جاحد، فإن كان جاحدا لوجوبها نُظر فيه، فإن كان جاهلا به، وهو ممن يجهل ذلك، كالحديث الإسلام، والناشىء ببادية، عُرِّف وجوبها، وعُلم ذلك، ولم يُحكم بكفره، لأنه معذور" كما نص على ذلك العلامة ابن قدامة المقدسي في كتابه (المغني).
وواصل بيانه بالقول: "وإن لم يكن ممن يجهل ذلك، كالناشىء من المسلمين في الأمصار والقرى، لم يُعذر، ولم يُقبل منه ادّعاء الجهل، وحُكم بكفره، لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة، والمسلمون يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، فلا يجحدها إلا تكذيبا لله تعالى ولرسوله وإجماع الأمة، وهذا يصير مرتدا عن الإسلام، وحكمه حُكم سائر المرتدين، في الاستتابة والقتل، ولا أعلم في هذا خلافا..".
أما تارك الصلاة كسلا وتهاونا فيُدعى إلى فعلها، حسب ابن قدامة، فيقال له "إن صليت وإلا قتلناك، فإن صلى وإلاّ وجب قتله، ولا يقتل حتى يُحبس ثلاثا، ويُضيق عليه فيها، ويُدعى في وقت كل صلاة إلى فعلها، ويُخوف بالقتل، فإن صلى، وإلا قُتل بالسيف، وبهذا قال مالك، وحماد بن زيد، ووكيع والشافعي، وقال الزهري: يُضرب ويُسجن، وبه قال أبو حنيفة، قال: ولا يُقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق" وهذا لم يصدر منه أحد الثلاثة".
من جهته قال أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بدار الحديث الحسنية بالرباط، الدكتور الناجي لمين: "بالنسبة للمرتد، فالنصوص الشرعية الواردة في حدِّه مطلقة عن شرط الاستتابة، إلا أن العلماء اختلفوا: هل تجب استتابته قبل تطبيق الحد عليه أو لا تجب؟ فرأى جمهورهم وجوب الاستتابة ثلاثا قبل تطبيق الحد عليه، ومنهم من رأى الاستتابة مستحبة".
الناجي لمين.. أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بدار الحديث الحسنية بالرباط
وأضاف لـ"عربي21": "وحجة الجمهور ما رواه مالك في الموطأ أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب من قبل أبي موسى الأشعري، فأخبره أنهم قتلوا مرتدا دون استتابة، فقال عمر: "أفلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستَتَبْتُمُوه لعله يتوب، ويُراجع أمر الله".. وقد صح أن الحد طُبق في عهد الصحابة دون استتابة".
وتابع: "وقد ورد في حديث الموطأ الذي ذكرته سابقا، وطبق بعد الاستتابة، وهو ما رواه أبو دواد أنه "أُتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريبا منها، فجاء معاذ، فدعاه، فأبى، فضرب عنقه وأصل الحديث في الصحيحين"، منبها على أن "أي حد من حدود الله لا يُطبق إلا بحكم قضائي، وينفذه من بيده السلطة، ولا دخل للأفراد فيه".
أما عن استتابة تارك الصلاة تكاسلا مع إقراره بها فأوضح الأكاديمي المغربي، لمين أنه "حصل خلاف بين العلماء في ذلك، فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى استتابته وإلا قُتل، واستدلوا بقوله تعالى {فاقتلوا المشركين.. إلى قوله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فَخَلُّوا سبيلهم..} فمفهومه عندهم أن من لم يُقم الصلاة يُقتل".
وأردف: "وقوله صلى الله عليه وسلم "من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة"، وهذا يدل على إباحة قتله، وقال سيدنا أبو بكر "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"، وقال أبو حنيفة: يُضرب ويُسجن ولا يقتل".
ولفت لمين إلى أنه لا يعلم ـ بحسب اطلاعه القاصر ـ "أن الحكام كانوا يقتلون تاركي الصلاة مع كثرتهم على مر العصور، فالظاهر أن هذا الحكم يُتداول في كتب الفقه، ولا يُطَبّق" على حد قوله.
وقال الإمام النووي في معرض إيراده لأقوال الأئمة في بيان حكم تارك الصلاة في كتابه (المجموع شرح المهذب): "ولم يَزلْ المسلمون يُوَرِّثُون تارك الصلاة ويُوَرَّثُون عنه، ولو كان كافرا لم يُغفر له، ولم يَرِثْ ولم يُورَثْ".
بدوره لفت الباحث الأردني المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور عادل أبو مرخية إلى أنه من خلال بحثه "لم يجد في كتاب الله عز وجل آية تدل على وجوب استتابة المرتد؛ مع أن هذه المسألة شغلت نطاقا واسعا؛ بل ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بقتل مرتد لأجل ردته، بل ثبت عنه أنه لم يأمر بقتل مرتد مثل عبيد الله بن جحش حينما تنصر".
عادل أبو مرخية.. باحث أردني متخصص في العلوم الشرعية
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وأنا هنا أؤكد أن كثيرا من المسائل الفقهية هي من قبيل القوانين التي قد تكون صادرة من السلطة الحاكمة لما يرون فيه مصلحة للفرد والمجتمع، ولا يشترط أن تكون هذه القوانين مبنية على نص قرآني، أو استقراء لما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام".
ورأى أبو مرخية أن "الفقهاء دعموا أقوالهم بما فعله بعض الصحابة والسلاطين فيما بعد، وأسندوا لهذه الأفعال بعض الروايات التي لا تفيد القطع قطعا، بل هي روايات آحاد، وتحتاج إلى دراسات حديثية، والآيات الدالة على عدم إكراه الناس على اعتناق الدين الإسلامي كثيرة منها قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، و{أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}".
وتابع: "ومع ذلك فإننا نجد في التاريخ الإسلامي أحكاما صدرت في حق المرتدين واستتابتهم، ووجدنا من يستدل بالآية الكريمة في سورة البقرة {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة..} ولو تفكرنا في هذه الآية جيدا فلن نجد فيها ما يدل على استتابة المرتد أو قتله، بل يمكننا أن نفهم من الآية الحث على التوبة، وهذا من باب النصيحة للفرد كي ينقذ نفسه من عذاب الآخرة".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن ما يترجح لديه في هذه المسألة أن "موضوع الاستتابة أمر لا علاقة له بالنصوص الدينية، بل هو صادر من جهة قضائية حسب ما يراه الحاكم".
الوسائل التي استعملها الرسول خاصة بزمانه أم عابرة للأزمنة؟
"المسلم الكيوت".. التوصيف بين إكراهات الواقع ودوام الاستقامة
"النسوية" بين تعاليم الشريعة والنماذج الغربية.. لمن الغلبة؟