سألني بعض الأحبة مؤخرا عن طرح يقول
بعودة العاملين للإسلام إلى المساجد والدعوة، وعدم الاشتغال بأي شأن سياسي، لما
يترتب على ذلك من صدامات ومشاكل مع الأنظمة.
يعكس الطرح المذكور تجاهلا لثلاث
قضايا؛ أولا بمنطق الأنظمة في تعاطيها مع المجتمعات وحراكها الثقافي والفكري،
وثانيا بأسس الإسلام ذاته، لأننا نتحدث هنا عن الإسلام وليس عن دين آخر، وثالثا
بآليات انتشار الأفكار في المجتمعات.
فيما يتعلق بالبعد الأول، لا بد أن
نشير إلى أن غالبية أصحاب الطرح المذكور (بعضهم يفعل ذلك بصدق نيّة) إنما يختصرون
ما يسمى "الإسلام السياسي" في نهج المعارضة الإصلاحية، وربما
"العنف"، بجانب دعاة التغيير السلمي الأكثر جذرية (أي من يرفضون
المشاركة في ديمقراطيات الديكور)، بينما الحقيقة أن البُعد السياسي يشمل (وفق منطق
الأنظمة) كل ما يمت إلى العمل العام بصلة؛ إن كان خيريا أم سياسيا أم نقابيا، أي أن
ترك "الإسلام السياسي" سيعني شطب أي عمل جماعي بأي صيغة كانت.
من هنا، سيكون على العاملين للإسلام،
وفق هذا المنطق، أن يتركوا أي صيغة للعمل الجماعي، حتى لو لم تكن منظّمة على نحو
ما هو معروف في التنظيمات والأحزاب.
الأسوأ من ذلك أن ذلك اللون من العمل
الذي يمكن تسميته دعويا أو ثقافيا أو اجتماعيا، لن يكون مُتاحا بصدقة من الأنظمة،
ومن دون أن تكون هناك حاجة تريدها من وراء ذلك، وفي الغالب لبرمجة التديّن في
المجتمع بما يخدمها، أو لمواجهة تيارات أخرى.
فمن يصدّق مثلا أن الأنظمة ستتسامح مع
عملية "أسلمة" للمجتمع؛ إذا جاز التعبير، وكان ذلك ممكنا، بينما هي تريد
مجتمعا معلمنا أو متغرّبا، لا سيما أن الغرب يريد منها ذلك، فضلا عن اعتقادها،
وفق منطق السياسة، أن من يفعلون ذلك (أي يغيّرون هوية المجتمع)، إنما يريدن تهيئة
الأجواء للانقضاض على السلطة، أو رفع سوية
مطالبهم على هذا الصعيد.
من يصدّق مثلا أن الأنظمة ستتسامح مع عملية "أسلمة" للمجتمع؛ إذا جاز التعبير، وكان ذلك ممكنا
إن العمل الدعوي أو الثقافي أو حتى
الاجتماعي البسيط لا يمكن أن يتم بمعزل عن رؤية السلطة وسطوتها، فهي من يحدّد أئمة
المساجد، وهي من يحدّد من يمكنه أن يدرّس فيها أو لا يدرّس، والنتيجة أن ذلك كله
خاضع لقرار سياسي أيضا، وليس حرّا وفق المنطق إياه.
البعد الثاني يتمثّل في تجاهل أسس
الإسلام ذاته، ذلك أن الحديث عن نشاط دعوي لا يصطدم بالسياسة، إنما يعني حشرا
للوعظ الديني في إطار العبادات لا أكثر، وترك منظومة المعاملات التي يرتبط أكثرها
بالدولة، مثل قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تحدد الدولة آلياتها،
فضلا عن تحكّمها بأكثر عناصرها.
كيف يمكن للواعظ أن يتجاهل مشاكل
المجتمع الذي يعيش فيه من فقر وبطالة وفساد وظلم، ثم يختصر حديثه الديني على الوعظ
التقليدي الذي لا صلة له بالحياة؟! ودعك هنا من تجاهل حقيقة أن قدرة السلطان على
تحديد مسارات المجتمعات الثقافية (ومن بينها أنماط التديّن)، كانت وما تزال أكثر
قوة من الوعظ المجرّد، إن كان بالقرآن أم بالسنّة، أم بعموم التراث.
ربما يصحّ ذلك في حالة السلفية
التقليدية التي تضيف إلى الوعظ التقليدي مقولة "طاعة ولي الأمر، وإن جلد
الظهور وأخذ الأموال"، لكن ذلك لن يصلح أيضا، بدليل ما يجري حاليا، وحيث تتم
محاربة هذا التيار، كما أخذت تحارب "جماعة الدعوة والتبليغ" وتشيطنها،
لأن الأنظمة لم تعد تريد التديّن برمته، سواء لبُعد ثقافي، أم لأنه يمنح حاضنة لما
يسمى "الإسلام السياسي"، مع العلم أن فرصة التيار السلفي التقليدي في
التمدّد خلال الألفية الحالية إنما جاءت بسبب صحوة دينية صنعتها جماعات
"الإسلام السياسي"، وليس بفضل مواعظ دعاته أو علمائه.
وهذا البُعد المتعلّق برؤية الأنظمة
لحالة التديّن، تحدثنا عنه مرارا، وخلاصته هي الاعتقاد بأن التديّن يمنح حاضنة
شعبية لـ"الإسلام السياسي"، ولا بد من محاربته تبعا لذلك، وفق سياسة
"تجفيف الينابيع" التي ابتدعها زين العابدين بن علي، ونقلها عن الصهاينة
في فلسطين (تقول إن عليك أن تجفّف المستنقع لكي تتمكّن من قتل البعوض).
البعد الثالث والأخير هو أن الطرح إياه
يتجاهل آليات انتشار الأفكار وحراك المجتمعات. ذلك أن من الجهل القول إن الأفكار
تنتشر بالوعظ وحسب.
لا يعني ذلك تقليلا من شأن الوعظ
ورموزه، لكن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك.
فالأفكار والأيديولوجيات بكل ألوانها
إنما تنتشر بالنماذج النضالية التي تحمل هموم الناس، وتعبّر عن ضمائرهم. ومن دون
أن يكون حملة الطرح الإسلامي معبّرين عن هموم الناس وضمائرهم، فإن أفكارهم لن
تنتشر، ولن تستقطب الأجيال الشابة الجديدة القادرة على الفعل والتغيير، وستعود
المساجد، كما كانت خلال عقود قديمة مكانا للقاء العجزة والمتقاعدين لا غير.
الأفكار والأيديولوجيات بكل ألوانها إنما تنتشر بالنماذج النضالية التي تحمل هموم الناس، وتعبّر عن ضمائرهم