إذا ظلت الحكومة البريطانية على عنادها وتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني، والإصرار على رفض الاعتراف بجريمة وعد بلفور المشؤوم، وغيره من الجرائم التي ارتكبتها على مدى سنوات الانتداب، الذي أنهته بالاتفاق مع قيادة الحركة الصهيونية قبيل إعلان الكيان الصهيوني في أيار/مايو 1948، فهي الأدرى من غيرها بأن الشعب الفلسطيني أكثر عنادا، ولن يتنازل عن حقوقه، وسيبقى متمسكا ومطالبا بها مهما طال الزمن.
وبريطانيا «العظمى» أدرى من غيرها بأن الشعب الفلسطيني لن ينسى، ولم ولن يتنازل عن حقوقه على مدى قرن وأربعة أعوام، وعن حق تقرير المصير، وظل متمسكا بحقوقه الوطنية، مقدما مئات آلاف الشهداء والأسرى، ولا يزال لديه الاستعداد لتقديم المزيد من التضحيات، حتى تحقيق أهدافه، بإزالة الاحتلال ونيل الاستقلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
وإذا ظلت الحكومة البريطانية على عنادها، وترفض تعويض الشعب الفلسطيني، والتعويض ليس بالضرورة يقتصر فقط على المال، وإن كان ذلك حقا وسيكون واردا في مرحلة لاحقة، نقول لبريطانيا إن يوم الحساب لناظره قريب، وإن الشعب الفلسطيني يعرف كيف يجعلها تدفع الثمن. وإذا ظلت الحكومة البريطانية على عنادها وعنجهيتها برفض احترام الشعب الفلسطيني وطموحاته الوطنية، فإنها سترغم على ذلك في ساحات المحاكم البريطانية، التي نأمل في أن يثبت القضاء البريطاني استقلاليته وعدالته ووقوفه مع الحق، ولن يكون أداة طيعة في يد السلطة السياسية الواقعة إلى حد كبير تحت تأثير النفوذ الصهيوني، الذي يحاول فرض سطوته على الأحزاب البريطانية، كما حصل في حزب العمال، الذي نجح هذا اللوبي في الحزب، في الإطاحة بزعيمه اليساري جيرمي كوربين الأكثر دعما للقضية الفلسطينية. وإذا ظلت بريطانيا على عنادها وماطلت وتقاعست، فإن المعركة معها ستحسم في ساحات محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، العاصمة السياسية لهولندا، التي يصر الفلسطينيون على اللجوء إليها في حال واصلت الحكومة البريطانية تنكرها للحقوق الفلسطينية. على بريطانيا واجب أخلاقي وسياسي وإنساني نحو الشعب الفلسطيني، الذي لا يزال يرزح تحت الاحتلال، ويدفع ثمن جريمة ارتكبتها حكومتها من دماء وحياة أبنائه. واجب أخلاقي يحتم عليها أن تعوض ولو نسبة واحد في المئة من المعاناة وحالة التشرد التي عاشها، ولا يزال يعيشها هذا الشعب على مدى مئة وأربعة أعوام، سواء الذي بقي منه صامدا فوق أرضه أو أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين، في ظروف لا تلائم العيش الآدمي، وأولئك الذين انتهت بهم الحياة للعيش في الشتات بحثا عن حياة كريمة. جريمة ترفض الحكومات البريطانية المتعاقبة الاعتراف بها، بالاعتذار للشعب الفلسطيني على معاناته وتعويضه، كما فعلت مع شعوب أخرى.
جريمة تعوضها على الأقل بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، ومنها حق تقرير المصير، والاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. إنها جريمة وعد بلفور، الذي أعطى الحق لليهود في إقامة وطن قومي في فلسطين، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، لاسيما السياسية منها.
وفقط للتذكير بوعد بلفور، الذي صدر في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 وجاء على شكل رسالة موجهة من وزير الخارجيّة البريطاني آنذاك آرثر جيمس بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، أحد أبرز وجوه المجتمع اليهودي البريطاني، لنقلها إلى ما سماه بالاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا. وينص الوعد المشؤوم على: «تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف، إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا، أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر». وللتذكير أيضا، فإن هذا الوعد المشؤوم منحته بريطانيا لليهود، الذين كانوا يمثلون فقط نسبة 3% من عدد السكان في فلسطين، حتى قبل أن تكون لها وصاية استعمارية على فلسطين. ونطالب، نحن الفلسطينيين، الحكومة البريطانية ونأمل في أن تنظر نظرة يسودها التعقل، وأن تحذو حذو صحيفة «الغارديان» والسير على خطاها بالاعتراف بالأخطاء والخطايا العديدة التي ارتكبتها الصحيفة، وهي عديدة، في عيد ميلادها المئتين، والاعتذار للشعب الفلسطيني، عن خطيئتها الكبرى، بالدور الذي أدّته في تمهيد الطريق لإعلان وعد بلفور المشؤوم والمساعدة في إقناع الحكومة البريطانية بتبنيه وإعلانه.
والشيء بالشيء يذكر، فإن «الغارديان» بعد طول انتظار، اعترفت بما تصفه بخطئها في تأييد وعد بلفور. وجاء الاعتراف في تقرير لها تحدثت فيه عن مجمل الأخطاء التي ارتكبتها على مستوى العالم منذ تأسيسها في عام 1821. فقالت: «عندما وعد آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني قبل مئة وأربعة أعوام بالمساعدة في إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، فإن كلماته هذه غيرت العالم. فقد دعمت «الغارديان» في ذلك العام واحتفت، بل يمكن القول إنها مهدت الطريق أمام إعلان وعد بلفور». وتضيف «الغارديان» في تقريرها؛ «إن سي. سي. بي سكوت رئيس تحرير الصحيفة في حينها، كان مؤيدا للحركة الصهيونية، وساعد ذلك في وضع نوع من الغشاء على عينيه، أعماه عن حقوق الفلسطينيين. وكتب في يوم الإعلان عن وعد بلفور مقالا افتتاحيا، رافضا فيه أي مزاعم اخرى للأراضي المقدسة (غير اليهودية) بقوله؛ إن العرب في فلسطين عددهم قليل، ويحتلون المستوى السفلي للحضارة». واختتمت «الغارديان» بالقول: «فما الذي يمكن قوله؛ إن إسرائيل اليوم ليست البلد الذي تصورته الغارديان والذي أرادته». والحقيقة أن التغير والتحول في سياسة «الغارديان» التحريرية إزاء إسرائيل والقضية الفلسطينية، بدأ بعد حرب حزيران 1967، حيث اكتشفت أن إسرائيل لم تكن، أو لم تعد الحمل الوديع الذي كانت تراه فيها، والذي يعيش وسط غابة من الغولة، وهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وكان التحول الكبير خلال انتفاضة الحجارة بعدما شاهدوا جنود الاحتلال وهم يكسرون عظام الأطفال الفلسطينيين، الذين يقذفونهم بالحجارة، وما تبعها من تعنت إسرائيلي وسياسة الاستيطان وإطلاق يد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية، حيث يعيثون فيها فسادا ويعربدون ويقتلون ويخربون.
وأختتم بالتذكير بأن 17 عاما مرت على اغتيال زعيم الشعب الفلسطيني ومفجر ثورته ياسر عرفات، في مقر إقامته في رام الله، الذي كان يخضع لحصار دبابات الاحتلال بعد أن دمرت أجزاء كبيرة منه. 17 عاما مرّت على رحيل أبو عمار وهو على سرير في مشفى بيرسي الفرنسي العسكري، بعدما عجز الأطباء عن علاجه. 17 عاما مرّت على تشكيل لجنة التحقيق باغتيال الزعيم، ورغم ذلك لا يزال القاتل أو بالأحرى القتلة أحرارا طلقاء. وفي ذكرى رحيله الـ17 نطالب بالكشف عما توصلت إليه لجنة التحقيقات، أيا كانت، وإلا فإن أصابع الاتهام ستتوجه إلى القائمين على هذه اللجنة. فيا أيها القائمون على لجنة التحقيق في اغتياله نقول لكم؛ إن الشعب الفلسطيني لن ينسى اغتيال زعيمه، ومفجر ثورتهم العصرية، إذا كنتم تتمنون ذلك. فمن قبلكم تمناه مؤسس الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون، وأول رئيس وزراء له، فأطلق مقولته الشهيرة عن اللاجئين الفلسطينيين: «الكبار سيموتون والصغار سينسون». وهذا لم ولن يحصل، فقد مات الكبار ولم ينس الصغار وبقوا أشد تمسكا بحقوقهم.
(القدس العربي)