مقالات مختارة

قاوم تقم

1300x600

تلاميذ الإمام المرتضى عبد الحميد ابن باديس – رحمه الله – كُثْرٌ؛ ولكن الذين سجلوا منهم شهاداتهم وذكرياتهم عمّا عرفوه من أستاذهم وعلموه من أحواله وآرائه مما لم يكتبه قُلٌّ، وهذا من تقصيرهم في حقِ أستاذهم، وفي حق شعبهم ووطنهم، ذلك أن هذا الرجل العَلَمَ نسِيَ حظّ نفسه وحقوق أولي أرحامه وآثر حق شعبه ووطنه مجسدا عمليّا ما كان يردده في أقواله وكتاباته من أنه “يعيش للإسلام وللجزائر”، وما أغلاهما وأنفسهما عند من يعرف قيمتهما من أولي الألباب.
من الذين سجلوا انطباعاتهم وذكرياتهم عن هذا الإمام “موقظي الضمائر في الجزائر” الأستاذ محمد يكّن الغسيري (1915-1974).
لقد أشرف على إخراج هذه الانطباعات والذكريات وقدم لها وعلّق عليها الدكتور مسعود بن موسى فلوسي، فجزاه الله خيرًا، وعنونها تحت “صورة من حياة ونضال الزعيم الإسلامي والمصلح الديني الكبير الشيخ عبد الحميد ابن باديس”، استعرض فيها بعد مقدمة عن الدولة الصنهاجية ودولة بني حمّاد والعلاقات الجزائرية الفرنسية من بداياتها إلى نكران فرنسا للجميل واحتلالها للجزائر تأكيدا لقول الشاعر:
إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
أو كما قال الشاعر الجزائري مفدي زكرياء:
“وكم تُبْطِرُ اللِئام”
ثم استعرض مراحل جهاد الشعب الجزائري ضد العدوان الفرنسي الصليبي، وهو جهادٌ لم يتوقف إلا لفترات قصيرة التقاطا لأنفاسه واستجماعا لقوته وإعدادا واستعدادا لاستئناف جهاده.
وفي القسم الثاني من هذه الذكريات والانطباعات، تحدث الأستاذ الغسيري عن أستاذه وإمام الجزائر عبد الحميد ابن باديس من حيث نسبه وأصله ومولده ونشأته وتعلمه في الجزائر وتونس، ثم بداية تدريسه وأدائه لفريضة الحج، حيث التقى بزميله فيما بعد الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وعودته إلى الجزائر بعد رفضه البقاء في الحجاز، ثم استئناف جهاده العلمي وخوض معركة تحرير النفوس والأذهان من الاستعمارين الداخلي والخارجي إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
علمنا مما رواه بعض تلاميذ الإمام ابن باديس في المجال السياسي أن هدفه كان إعلان الجهاد ضد فرنسا لتحرير الجزائر، وكان يشيرُ إلى ذلك كلّما استيقن عدم وجود عيون فرنسا وآذانها، ومن ذلك ما قاله الأستاذ الغسيري من أن الإمام ابن باديس كان يرددُ على مسامعهم “قَــاوِمْ تَــقُــمْ” لا “سَــلِّــم تَــسْــلَــمْ” رادًّا بذلك على القاعدين والمثبطين الذين يشيعون روح اليأسِ والاستسلام في الشعب الجزائري تحت شعارهم (لو ما حبهم ما يجيبهم) (ص. 98)، ناسين قوله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم: “إنّ الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر”، وهل هناك أفحش وأنكر من الاستعمار الفرنسي الصليبي.
بقي أن نذكر بأن الشيخ الغسيري بعد ما حفظ القرآن الكريم في بلدته غسيرة ومبادئ اللغة والدين، التحق بدروس الإمام ابن باديس في قسنطينة وبعد تخرجه في 1937 عَمِلَ في مدارس جمعية العلماء في كل من باتنة وقسنطينة وسكيكدة، ثم نشط في الكشافة الإسلامية ليعتقل في جرائم 08 ماي 1945، وعند تكوين الإمام الإبراهيمي للجنة العليا للتربية والتعليم عيّنه عضوا فيها، ثم كُلِفَ بالتفتيش العام لمدارس الجمعية، وعند إعلان الجهاد كان في بعثة جبهة التحرير الوطني في دمشق بعد استرجاع الاستقلال سفيرا في السعودية، ثم في الكويت، وفي عام 1974 أتاه اليقين فرحمه الله رحمة واسعة، وألهمنا السير على هدى أسلافنا البررة.

(الشروق الجزائرية)