مع انطلاق السباق الانتخابي يوم 10 تشرين الأول/أكتوبر، بدأت توقعات النتائج تطرح بشكل شبه رسمي في وسائل الإعلام، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، بعض الآراء روجت لفكرة مفادها أن الدورة الانتخابية الخامسة تمثل «ظاهرة مفصلية» في تاريخ العراق المعاصر، ويستكمل من طرح هذا التوصيف تبيان اعتقاده بالقول؛ إن معطيات الانتخابات بعد تغيير قانون الانتخابات من نظام القوائم المغلقة أو المفتوحة إلى نظام الانتخاب الفردي، قلل من سطوة الأحزاب التي أمسكت بالعملية السياسية طوال السنوات الماضية، وكذلك التحول من نظام سانت ليغو وطريقة حساب الأصوات القائم على الصوت المتحوّل، الذي تحصل فيه الأحزاب الكبيرة على أصوات الخاسرين، إلى نظام انتخابي تحسب في الأصوات بنظام الصوت غير المتحوّل، سيساعد على صعود المستقلين والأحزاب والحركات الصغيرة، يضاف إلى ذلك نظام الدوائر الصغيرة المتعددة، بدل نظام الدائرة الواحدة، ثم نظام الدوائر على عدد المحافظات، وصولا الآن إلى نظام الدوائر بحسب عدد السكان، لكل تلك الأسباب توقع بعض المراقبين أن نتائج هذه الدورة الانتخابية ستكون أكثر تمثيلا للواقع السياسي.
أحد مشاكل الدستور الحالي تمثلت في عدم وجود فقرات واضحة لآلية العملية السياسية، في حال استقالة الحكومة، أو تشكيل حكومة مؤقتة تقوم بواجبات الإعداد للدخول في مرحلة جديدة، إذ يخلو الدستور العراقي من مصطلح «حكومة مؤقتة»، وإن استعمال هذا التوصيف مع حكومة مصطفى الكاظمي لم يكن قانونيا بقدر ما كان توصيفا إعلاميا فقط، وكانت بعض الأحزاب في الحكومة والبرلمان تطالب بأن تتم حكومة الكاظمي حياتها القانونية حتى شهر أيار/مايو 2022 وإجراء انتخابات برلمانية عادية، لكن ضغط الشارع وبعض الفاعلين السياسيين أدى إلى إجراء انتخابات مبكرة في أكتوبر (تشرين الأول).
كل تلك المعطيات تم تمريرها بضغط الحراك الجماهيري المطالب بالتغيير، وتحديدا انتفاضة تشرين، التي أطاحت بحكومة عادل عبد المهدي وأجبرتها على الاستقالة، ما دفع البرلمان إلى الإسراع في إجراء التعديلات على بعض القوانين، لكن هذا الأمر لا يعني بأي حال أن مطالب تشرين تتمثل في إجراء انتخابات مبكرة فقط، لأن الجو السياسي غير الملائم لإجراء الانتخابات ما زال سائدا، حيث سطوة السلاح المنفلت عن سيطرة الدولة، وتدخل المال السياسي الفاسد في الحياة السياسية، نتيجة غياب تفعيل قانون الأحزاب، بالإضافة إلى عمليات القتل والتغييب والتهديد التي طالت الكثير من الناشطين لمنعهم من المشاركة الحقيقية في التنافس الانتخابي. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الانتخابات البرلمانية المبكرة أجريت في ظل خرق دستوري صريح، إذ كان من الواجب إعطاء مدة زمنية كافية يحل فيها البرلمان، وتتحول حكومة الكاظمي إلى حكومة تصريف أعمال لتجنب تأثير الكتل السياسية على مجريات الانتخابات الجديدة، إذ حددت المادة 64 من الدستور العراقي آلية دعوة رئيس الجمهورية لإجراء الانتخابات بعد حل البرلمان، والتحول إلى حكومة تصريف أعمال في غضون شهرين، لكن البرلمان العراقي اجتمع وصوّت بالأغلبية على استمرار أعماله حتى يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، أي قبل الصمت الانتخابي بيومين فقط، وقد عزا الكثير من المحللين والمراقبين هذا الإجراء إلى تمسك القوى السياسية بمكتسباتها حتى آخر لحظة.
المسألة المهمة في إدارة انتخابات 2021، هي تأكيد عدة جهات حكومية وقضائية على الإمكانات المادية والرقابية التي توفرت لإنجاح هذه الدورة من الانتخابات، كما أشير إلى تشكيل مجلس مفوضين تم اختيارهم من سلك القضاء ليدير المفوضية العليا للانتخابات، وقد قدمت هذه الخطوة انطباعا مفاده أن من سيشرف على الانتخابات هم القضاة، من دون تدخل الكتل السياسية، لكن عددا من المراقبين أشاروا إلى أن تسمية القضاة الجدد تم بترشيح الأحزاب أيضا، لنصل إلى نتيجة مفادها إخراج التسييس من باب المفوضية العليا فدخل من الشباك. أما حديث الحكومة والمفوضية العليا للانتخابات عن الإمكانات التقنية من أجهزة وآليات وبطاقات بايومترية، ستجعل عمليات العد والفحص الإلكتروني سليمة وشفافة، فهو مفارقة أخرى، إذ إن الناخب العراقي كان قد سمع كل ذلك في انتخابات 2018، ومع ذلك حصل الكثير من الأعطال والخروقات والتلاعب بصناديق الانتخابات.
السمة المسيطرة على الدورة الانتخابية الحالية هي توسع تيار المقاطعة بشكل واضح، فبعد أن شمل 60% من الناخبين في الانتخابات الماضية، بحسب التصريحات الحكومية، وهي أعلى نسبة عزوف عن الانتخابات منذ 2005، بات الحديث اليوم عن ارتفاع نسب المقاطعة، بالإضافة إلى تأطير هذا الفعل سياسيا من أحزاب وتيارات وتنسيقيات، طرحت أفكارا لتأطير رغبات الشارع المقاطع الذي أحس بالخذلان، وانسداد الأفق، وعدم إمكانية حصول التغيير عبر آليات التنافس الانتخابي، وقد تشكلت جبهة سياسية من أحزاب وحركات وتنسيقيات انتفاضة تشرين، التي قاطعت الانتخابات، وطرحت نفسها كمعارضة على أرض الواقع، ولم يعد فعل المقاطعة إجراء سلبيا فقط، بل تحول بفعل هذه القوى إلى خطوة قد تعقبها خطوات من الاحتجاج والإضراب، قد تهدد الحكومة المقبلة، كما حصل مع حكومة عادل عبد المهدي.
المرجعيات الدينية الشيعية ممثل بمرجعية السيد السيستاني في النجف، والمجمع الفقهي الذي يمثل أعلى مرجعية سنية في العراق دخلت على خط الحث على المشاركة في الانتخابات، مع إعطاء نصائح بحرمة بيع البطاقات الانتخابية، ووجوب اختيار الأصلح بين المرشحين، ممن لم تتلوث أيديهم وسمعتهم بصفقات الفساد، لكن هذه المسألة أيضا لم تكن جديدة، إذ طالما دعت المرجعيات الدينية الشارع المغلوب على أمره، الذي يشارك في صنع مأساته أحيانا إلى الفعل الإيجابي، لكن النتيجة كانت عملية تدوير للوجوه الفاسدة طوال عقدين من الزمن حتى وصل حال البلد إلى مديات غير مسبوقة من التردي. توقعات المراقبين وبعض المراكز البحثية التي أجرت استبيانات حول نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة طرحت صورة لا تختلف كثيرا عن سابقاتها من الدورات الانتخابية، التي أفرزت برلمانات وحكومات متعثرة طوال عمر العملية السياسية العراقية، إذ توقعت الاستبيانات أن تحصل الكتل الشيعية الأبرز على الحصص الأكبر في البرلمان، وهذه الكتل هي: كتلة التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر، وكتلة الفتح بقيادة هادي العامري، التي تمثل صوت الفصائل الولائية القريبة من إيران، وكتلة دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي يسعى للحصول على ولاية جديدة لرئاسة الحكومة، بدعم من كتلة الفتح، وكتلة قوى الدولة بقيادة عمار الحكيم، التي تشكلت من ائتلاف تيار الحكمة وكتلة النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، يضاف لهذه الكتل بعض الكتل الصغيرة والمرشحين المستقلين، الذين يتوقع المراقبون أنهم سرعان ما سينضوون تحت مظلة الكتل الكبيرة في الاجتماعات الأولى للبرلمان الجديد.
أما أبرز الكتل السنية المتنافسة في هذه الدورة الانتخابية، فهي كتلة «تقدم» الناشطة في محافظة الأنبار بقيادة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، تنافسها كتلة «عزم» بقيادة خميس الخنجر والناشطة في مدن محافظة صلاح الدين وكركوك والمؤتلفة مع كتلة فتح الشيعية، ينافسها في محافظة صلاح الدين حزب الجماهير بقيادة أحمد الجبوري، بينما مثلت كتلة «متحدون» بقيادة رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي أبرز القوى السنية في محافظة نينوى.
المشهد الكردي هذه المرة انقسم إلى كتلتين انتخابيتين، الأولى كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، وهو الحزب الأقوى في مدن أربيل ودهوك التي تمثل مناطق نفوذ الحزب التاريخية، بينما أتلف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة أبناء جلال الطالباني مع حركة التغيير الكردستانية لتشكيل تحالف كردستان، الذي ينشط بشكل واضح في مدن السليمانية وكركوك. الشيء الجديد على المشهد الانتخابي العراقي هذه المرة، كان مشاركة بعض الأحزاب والحركات التي انبثقت من حراك تشرين في بغداد ومدن الجنوب والوسط، إذ اشتركت ثمانية كيانات في الانتخابات الأخيرة، وعلى الرغم من زخم شارع تشرين الدافع باتجاه تشكيل أحزاب تبلور مطالبه وتعمل على الوصول إلى البرلمان لإيصال صوت المطالبين بالتغيير، إلا أن التوقعات الأولية تشير إلى عدم حصول هذه الحركات إلا على بضعة مقاعد قد لا تتجاوز أصابع اليد، بسبب حراك تيار المقاطعة الواسع الذي طغى تأثيره ودفع باتجاه النأي بالنفس عن إعطاء شرعية للأحزاب الفاسدة والمشاركة في تدوير وجوه الفساد الكالحة مرة أخرى.