وقعت الولايات المتحدة الأمريكية
والعراق اتفاقية «وضع القوات SOFA» سنة 2008 وقد تضمنت الاتفاق إلى سحب القوات الأمريكية من العراق
بحلول 31 كانون الأول/ ديسمبر 2011 في حال عدم طلب أي من طرفي الاتفاقية تمديدها.
وقد فشلت المفاوضات المتعلقة بتمديد بقاء القوات الأمريكية في العراق بعد ذلك
التاريخ، مما دفع القوات الأمريكية للانسحاب من العراق في التوقيت المحدد.
عند لقاء رئيس مجلس الوزراء الأسبق المالكي
بالرئيس أوباما سنة 2011، سمع العالم أجمع من الرئيس الأمريكي كلاما ورديا عن
الوضع في العراق، وكان الخطاب تسويغا للانسحاب ولا علاقة له بما كان يجري على
الأرض! ففي ظل أزمة النظام السياسي وعجزه عن حل الصراع متعدد الأوجه بين الفرقاء
السياسيين. بدت الرؤية التي قدمها أوباما رؤية افتراضية عما سماه عراقا: « يعكس
اليوم تقدما مثيرا للإعجاب صنعه العراقيون» وعن عراقيين «يعملون على بناء مؤسسات
تتسم بالكفاءة ومستقلة وشفافة» وعن رئيس وزراء «يقود حكومة هي الأكثر شمولا حتى
اليوم»! وأخيرا عن «إحصاءات لافتة للنظر» فيما يتعلق بالبنية التحتية والتنمية، و
«تقديرات» بأن اقتصاد العراق سينمو أسرع حتى من الصين أو الهند، وهي رؤية ستجعله
كما يخبرنا أوباما «نموذجا للمنطقة بأكملها» كما جاء في خطابه، لأنه بلد «الناس
فيه من مختلف الطوائف الدينية والعرقيات يمكن حل خلافاتهم سلميا من خلال العملية
الديمقراطية»! وهي الرؤية التي دفعت هيئة تحرير صحيفة الواشنطن بوست في اليوم
التالي إلى كتابة عمود تحت عنوان موح : «رؤية أوباما الوردية لعراق ما بعد الحرب»
واصفة إياها بأنها رؤية «متفائلة بشكل مقلق».
مع الساعات الأخيرة لانسحاب القوات الأمريكية،
بدأت محاولات الفاعل السياسي الشيعي احتكار السلطة، وتكريس سياسات تمييزية ذات
حمولة طائفية، وتصفية الخصوم السياسيين؛ حيث أصدر القضاء المسيس والخاضع لهيمنة
نوري المالكي آنذاك، أمر إلقاء قبض ضد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية يوم 19
كانون الأول/ ديسمبر 2011، وهو ثاني قرار لتصفية الفاعلين السياسيين السنة بعد
قرار إلقاء القبض على الدكتور عدنان الدليمي الذي صدر قبل ذلك بأشهر! لتبدأ
محاولات المالكي المنهجية لتحييد مجلس النواب، بالتعاون مع المحكمة الاتحادية التي
أصدرت قرارات عديده لتركيز السلطة في يد المالكي بشكل مطلق! بداية من قرارها
بتحييد قدرة مجلس النواب على استجواب السلطة التنفيذية، وصولا إلى قضم صلاحية مجلس
النواب في إصدار تشريعات من دون موافقة مجلس الوزراء! ولكن الاحتكار الأخطر كان
فيما يتعلق بالملف الأمني، عبر تحويل مكتب القائد العام للقوات المسلحة من مكتب
ارتباط وتنسيق إلى صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الملف.
كانت النتيجة المنطقية لذلك كله مواجهة مفتوحة
بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وموجة احتجاجات واعتصامات امتدت على
مدى الجغرافيا السنية، لننتهي إلى سقوط أكثر من ثلث العراق بيد داعش.
في العام 2013، أي في السنة السابقة لغزوة
داعش هذه، كان تعداد القوات العسكرية والأمنية العراقية يزيد عن 984211 فردا
(661914 فردا في وزارة الداخلية، و 322297 فردا في وزارة الدفاع) تبعا للأرقام
التي وردت في قانون الموازنة الاتحادية العامة للسنة نفسها، بالإضافة إلى بضعة
آلاف آخرين في أجهزة أخرى! وبلغت ميزانية هاتين الوزارتين حينها ما مجموعه 87.415
مليار دولار ما بين عامي 2006 و 2013 (بواقع 42.882 مليار دولار لوزارة الدفاع، و
44.569 مليار دولار لوزارة الداخلية) يضاف إليها بضعة مليارات أخرى خصصت في
موازنات الأعوام 2004 و 2005، ومليارات أخرى صرفتها الولايات المتحدة والدول
المانحة الأخرى على هذه القوات! كل هؤلاء الأفراد، وهذه المليارات، لم تستطع أن
تقف بوجه بضعة آلاف من مقاتلي داعش، على أعلى تقدير، بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة!
ولكن بدلا من التعلم من «درس داعش» المرير،
ومراجعة المقدمات التي أنتجت هذه الظاهرة، ومعالجة الاختلالات البنيوية في النظام
السياسي العراقي، والتخلي عن السياسات التمييزية ذات الحمولة الطائفية، شهدت الحرب
على داعش وما تلاها تأكيدا، ليس على تكريس هذه المقدمات وحسب، بل إنتاج مقدمات
أخرى على رأسها شرعنة وتحصين الدولة الموازية/ السلاح الموازي، التي باتت تنازع
الدولة سلطاتها!
فقد استمر الفاعل السياسي الشيعي في تصديق
الكذبة التي أطلقها ومفادها أن ما جرى كان نتيجة «مؤامرة دولية» وأن داعش ليس
تنظيما عراقيا، بل تنظيم اجنبي كان نتاجا للصراع في سوريا!
ولم تسع الطبقة السياسية الفاعلة إلى تصحيح
هذه الاختلالات من خلال التوصل إلى إجماع وطني حول سبل مواجهة هذا التنظيم برؤية
وطنية، بل رفضت، بدلا من ذلك، فكرة القوات المحلية (الحرس الوطني) لمحاربة داعش،
وهي الفكرة التي اقترحها الأمريكيون، وتبناها البرنامج الحكومي لحكومة الدكتور
حيدر العبادي (2014 ـ 2018) الحائز على ثقة مجلس النواب، مستبدلا إياها بفكرة
الحشد الشعبي بعد «تحريف» فتوى السيد علي السيستاني الخاصة بالجهاد الكفائي (والتي
دعا فيها السيد السيستاني الشعب العراقي إلى التطوع في المؤسسة العسكرية والأمنية)
ليستغل القابض على السلطة هذه الفتوى لشرعنة جماعات عقائدية شيعية مسلحة كانت
قائمة قبل الفتوى، ومنحها غطاء رسميا.
بموازاة ذلك كانت الخطة العسكرية التي تم
اعتمادها لمواجهة داعش، بتوجيه أمريكي، هي خطة أطلقنا عليها أسم «نقلة الفرس» أي
اعتماد مبدأ حركة الفرس في الشطرنج، والتي تقوم على الانتقال من مدينة إلى أخرى
لطرد تنظيم الدولة من المدن التي سيطر عليها، وليس ملاحقته إلى المناطق التي كان
يتمركز فيها قبل القيام بغزواته المتتالية بداية من كانون الثاني/ يناير 2014
وهزيمته هزيمة نهائية! لذلك استندت الاستراتيجية القتالية للقوات العراقية، آنذاك،
على ثلاثة عناصر رئيسية: هي التحشيد والحركة بأعداد كبيرة، واستخدام الكثافة
النارية من جميع أنواع الأسلحة بشكل عشوائي، والغطاء الجوي الأمريكي بطبيعة الحال.
ولا يمكن في الواقع اعتماد هذه الاستراتيجية، عند ملاحقة أفراد ومفارز داعش في المناطق
الصحراوية الوعرة التي لجأوا إليها، وهو الأمر ما جعل داعش تتحرك بمرونة عالية في
هذه المناطق، وتقوم بتعرضات شبه يومية على أطراف المدن والبلدات، ثم تعود إلى
قواعدها، وهي تعلم أن القوات العراقية لن تلاحقها بسرعة، بل تحتاج إلى استعدادات
واسعة قبل القيام بهكذا مهمة، وبالتالي تفقدها عنصر المباغتة، وتعطي الفرصة
لمقاتلي داعش لتغيير مواقعهم.
هكذا بقي تنظيم داعش يشكل خطرا حقيقيا، من
خلال استثمار تداعيات المشكلة السنية لمصلحته، واستثمار السياسات التمييزية من اجل
مزيد من «المتطوعين» الذين انضموا إليه (ليس إيمانا بالأيديولوجيا نفسها، بل بحثا
عن ملاذ آمن، أو رغبة في الانتقام) ولا يزال يشكل هذا الخطر ويتحيَّنُ الفرصة
المناسبة لاستعادة لحظة 2014 مرة أخرى.
اعتمادا على كل ما تقدم، ليس ثمة ما يمنع من
تكرار السيناريو الأفغاني في العراق في حال انسحاب القوات الأمريكية بالكامل (وليس
ثمة قرار أمريكيا بهذا الاتجاه حتى اللحظة) في ظل إصرار الفاعل السياسي الشيعي على
إدامة السياسات نفسها التي أنتجت ظاهرة داعش في المقام الأول. وليس ثمة اختلاف
حقيقي بين خطاب «المتباهين» بقوة الحشد الشعبي الذين نسمع أصواتهم اليوم، وبين
خطابات المالكي وجنرالاته قبل العام 2014!