مقالات مختارة

إلى بيتا ذهبت ورأيت... هنا بيت القضية

1300x600

عندما وصلت إلى بيتا ورحنا نبحث عن الطريق المؤدية إلى جبل صبيح، والتي تمر بمنتزه بيتا، وهو منتزه كبير على الطبيعة لعائلات بيتا ويطل على هذا المنتزه جبل صبيح، الجبل القمة العالية التي لا تشرف فقط على هذا المنتزه وبلدة بيتا بل هي التي تشرف على كل الطرق الاستراتيجية التي تؤدي إلى شمال الضفة الغربية، سواء من الأغوار أو من وسط فلسطين.


عندما وصلت إلى تلك النقطة الحساسة أي خط الاشتباك مع المستوطنين كان هنالك تجمّع لشباب وفتيان وصبية، أثاروا في عقلي وإحساسي شعوراً غاب عني منذ زمن طويل، كان ذلك الشعور الذي غمرني عندما حشدت أنا وأصدقائي عشرات من الشباب اللبناني الفلسطيني الثانوي الجامعي وحتى الابتدائي في قصر الشقيري في بلدة كيفون في جبل لبنان لنستخدم حديقة القصر ميداناً للتدريب رداً على هزيمة الـ67 كانت تلك الأيام من أيام حزيران عندما دبّ الدم الحار في كل العرب، فلقد انتصرت إسرائيل على الجيوش العربية القوية، مصر وسوريا والأردن، ولكن الحقيقة كانت هي أن الولايات المتحدة هي من انتصرت ودمّرت تلك الجيوش وأولها طيران مصر الذي دمرته الطائرات الأمريكية على أرضه في مصر وانتهت المعركة بسرعة، لأن الولايات المتحدة ضربت كل القوى الجاهزة والقادرة على الرد والتصدي وإلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، لم تقاتل إسرائيل، الذي قاتل هم الأمريكيون، لا شك أن فضيحة ليبرتي الباخرة التجسسية الأمريكية والتي قادت كل الهجمات الأمريكية على الطيران المصري والدبابات المصرية وعلى سوريا وعلى بعض المواقع في الضفة الغربية، الباخرة ليبرتي، قامت إسرائيل بإغراقها وتدميرها رغم أنها تعرف أنها أمريكية كي تخفي الحقيقة وهي أن تلك الباخرة هي التي قادت تلك المعركة ضد جيوش مصر وسوريا والأردن وهي التي ألحقت الهزيمة بتلك الجيوش ثم أعطت إسرائيل راية الانتصار ولن أنسى أيضاً وهذا ما بادر إلى ذهني عندما رأيت شباب بيتا، لن أنسى موشي ديان يرد على سؤال لقناة فوكس، سأله المذيع هل تعتقدون أن الله كان إلى جانبكم حتى انتصرتم بهذه السرعة، أجابه ديان بكل صلف واستكبار، نحن كنا إلى جانب الله وليس هو الذي كان إلى جانبنا.


كلها جاءت ومرّت سريعاً في ذهني، لكن الشعور هو الذي طغى بأن الدم حار وأن علينا أن نقاتل وأن نتصدى للعدو المحتل وأن نسترجع أراضينا وكرامتنا، فقد ساد في العالم العربي تلك اللحظات شعور بالانقباض والإحباط، سواد في سواد، حداد في حداد، هُزمت القوة العربية أمام جيش إسرائيل، انتصرت إسرائيل، إسرائيل غزت المنطقة واحتلت الأراضي وثم شاع في كل مجال لها نفوذ كل الشعارات المعادية للعرب حتى وصلت الأمور إلى بعض مطاعم نيويورك أنها وضعت على الباب إعلاناً «ممنوع دخول الكلاب والعرب»، كانت هذه المعارك بنتائجها مذلّة للعرب مذلّة لكل العرب، وأول من شعر بذلك الإذلال جمال عبد الناصر الذي قدّم استقالته رغم أن المسؤولية كانت على عاتق مسؤولين آخرين في الثورة المصرية، قدّم استقالته لأنه شعر أنه هو المسؤول، ولكن الشعب الذي ناضل معه لبناء السد العالي وناضل معه في كل المراحل من أجل خلق مجتمع جديد، من أجل خلق وحدة عربية، من أجل بناء قوة لاسترجاع فلسطين، أجبره على العودة عن استقالته حتى يكمل المشوار.


في حديقة بيت أحمد الشقيري رحمه الله تجمّع الشباب والفتية، يريدون تدريباً سريعاً على السلاح، يريدون السلاح، يريدون أن يتوجهوا إلى فلسطين للقتال وبالفعل تجاوب معنا اللواء محمد الشاعر رحمه الله، وكان إلى يمينه الضابط فيصل الحسيني وإلى يساره الضابط باسم بركات وهما ضابطان فلسطينيان وكان اللواء محمد الشاعر هو القائد الأعلى للقوات الفلسطينية، قوات منظمة التحرير الفلسطينية.


وعندما حضر اللواء وضباطه جلبوا معهم نماذج من الأسلحة المتوسطة والخفيفة وبعض خرائط الأسلحة الثقيلة، كالمدفعية والهاون الكبير، كي يعلموا الشباب (ألف، باء) الأسلحة وهم لم يمسكوا بحياتهم قطعة سلاح ولم يتدربوا في حياتهم على أي معركة أو أي نوع من القتال.


حماسة الشباب في تلك الحديق ، شبّهتها بحماسة شباب وفتية بيتا، بيتا نقول بيتا، باللفظة اللبنانية هو بيتها وبيتها هنا يجوز أن نطلق عليها اسم بيت القضية، فلقد أمسك هؤلاء الشباب والفتية، أمسكوا بالرسن الحقيقي، أمسكوا بالحبل الحقيقي، حبل الحياة، حبل الحرية حبل طرد الغزاة من أرضنا المقاومة، المقاومة، المقاومة.


جميعهم كانوا متحمّسين للاندفاع نحو المستوطنين ليقاتلوهم ويطردوهم من أرضهم جميعهم، ولكن عندما نظرت إلى هؤلاء الفتية رأيت فيهم هؤلاء نفس الفتية الذين تجمعوا في حديقة بيت الشقيري، لا تدريب، لا سلاح، لا علم لهم بفن القتال، إنهم يحتاجون إلى ذلك، إن أرادوا أن ينتصروا ولا شك أنهم يريدون الانتصار وعلينا أن نطور من قدرة هؤلاء الشباب، من قدرة قذف حجر على المستوطن إلى قدرة أعلى، حتى يعلم هذا المستوطن أن محاولته سرقة أرض فلسطين تعني دفع ثمن كبير.


لقد أخذ شباب بيتا وفتيانها زمام المبادرة فتخطوا القيادة، تخطوا كل المسؤولين وعملوا بما يعتمر في قلوب المؤمنين من أبناء شعبنا، ناضلوا وقاموا كما يريد الشعب في مواجهة هذا الاحتلال والغزو الاستيطاني، لقد بادروا وتسلّموا الزمام واندفعوا في هجوم دفاعي مستميت، اضطر معه المستوطنون على التراجع واضطر معه جنود الجيش الرسميون الذين يحمون المستوطنين للتراجع أيضاً، لكنّ الخطر قائم فهذا العدو مراوغ، ما زال يرسل ليلياً مجموعات من المستوطنين ويحتفظ بالمنشآت والمنازل التي بنيت على أرض الفلسطينيين، وما زال الدفاع قائماً وما زال الهجوم الدفاعي قائماً، وما زال الشباب والفتية متحمّسين ومنطلقين لمقاومة الغزاة مهما كلف الأمر.

إذا كان مهندسو بيرزيت تفوقوا على شركات عالمية كبرى في مخطط مرفأ بيروت، فلا شك في أن لدينا عقولاً قادرة على الاختراع وعلى تطوير سلاح المقاومة الشعبية


اليوم، سقط 411 جريحاً ومصاباً ستة منهم بالرصاص الحي، والباقي بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط وآخرون اختناقاً بالغاز، الذي زادت قوات الاحتلال كثافته، بحيث أصبح قادراً على خنق من هم كبار في السن، ومن هم دون السن القانونية، يقتلون الأطفال وكبار السن بزيادة كثافة ذلك الغاز الذي يفترض أن يُسيل الدمع لا أن يسيل الدم.


411 جريحاً في يوم واحد، وإذا أضفنا إليهم جرحى كل الأيام التي مرت على هؤلاء الشباب والفتية وهم يقاومون الغزاة والمستوطنين نستطيع أن نصل إلى خانة الآلاف، والسؤال هنا ، هؤلاء الشباب في الدرجة الأولى حماستهم بحاجة إلى امتلاك تقنية في التصدي والدفاع الهجومي تمكّنهم من تدفيع العدو ثمناً غالياً.


لا بد من أن ينالوا تدريباً على الأمور البسيطة التي تجعل من المقاومة الشعبية، مقاومة حقيقية.
سأضرب مثلاً هنا، هنالك عدد كبير من ضباطنا الذين تخرّجوا من دورات وكليات ودفع الشعب الفلسطيني باهظاً كي ينالوا ذلك التدريب والشهادات، عدد كبير منهم أحيل للتقاعد في سن مبكرة من قبل السلطة الحاكمة هذه الأيام.


أحيلوا للتقاعد منذ بداية هذه السلطة الحالية، والسؤال، هؤلاء الضباط الذين دفع الشعب الفلسطيني غالياً كي يتدربوا ويتخرجوا ويمتلكوا العلم العسكري، ماذا يفعلون، يجلسون في بيوتهم يشاهدون التلفزيون يتناولون القهوة، يشربون الأرجيلة، يدعو بعضُهم بعضاً لأكل المناسف، السؤال ماذا يفعل هؤلاء الضباط، الذين تعبنا كشعب ومنظمة من أجل تدريبهم وإرسالهم إلى الكليات العسكرية وتخريجهم مقاتلين من أجل فلسطين وليس ليجلسوا ليتناولوا القهوة والشاي، في تقاعد أجبروا عليه في سن مبكرة، والأمر لهؤلاء لا يحتاج أبداً إلى قرار رسمي من السلطة، بل يحتاج إلى أن يتخذ هؤلاء الضباط مبادرة، تماماً كأهل بيتا، شبابها وفتيانها، أن يأخذوا المبادرة ويختلطوا بهؤلاء الشباب ويدربوا هؤلاء الشباب ويجعلوهم يمتلكون على الأقل المبادئ الأساسية في كيفية صناعة المقاومة الشعبية.


هذا اقتراح أول، وهنالك اقتراحات كثيرة، لكن ربما تحتاج إلى وقت، كي ينفض كل فلسطيني أوساخ نظام نسّق مع العدو وأضاع على الشعب الفلسطيني أكثر من عشر سنوات من الخنوع، والرضوخ للإملاءات والسكوت على بناء المستوطنات ونهب الأراضي، فمنذ عام ألفين عندما اقتحم شارون المسجد الأقصى، وعندما أصبح نتنياهو رئيساً للوزراء، بدأت الحملة الواسعة لنشر المستوطنات ومصادرة الأراضي وبناء الوحدات السكنية الإضافية لتحويل الضفة الغربية إلى منطقة تُضم إلى اسرائيل تحت اسم يهودا والسامرة.


إذا كنا نقترح على هؤلاء الضباط أن ينفضوا عن أكتافهم كل ذلك الغبار، وأن يبدأوا بتدريب الفتية والشباب، على المبادئ الأساسية ولا نقول على الأسلحة الثقيلة، المبادئ الأساسية للمقاومة الشعبية التي تجعل من ضرباتهم مؤثرة في الغزاة ولا يُكتفى بالحجر، هؤلاء عليهم واجب وأنا لا أناشد هنا، بل أذكّر كل ضابط منهم أن عليه واجباً وأنه أقسم اليمين عندما التحق بقواتنا المسلحة، وعليه الوفاء بذلك اليمين وعليه أن لا يستشير السلطة وعليه أن يسعى بقدميه بنفسه للالتقاء بالفتية دون ترتيب، والحرص كل الحرص حتى لا تتسرب أنباء هؤلاء إلى أجهزة التنسيق فيُلاحق ويعتقل.


من ناحية أخرى هناك عنوان كبير جداً جداً، يجب أن يصبح الشباب والفتية ضالعين فيه ومنخرطين ليلَ نهارَ، فنحن نسمع بين الحين والآخر عن فتية وشباب، اخترعوا أجهزة من أشياء بسيطة، ولّدوا الكهرباء من لا شيء ، أقاموا مصانع لأشياء حساسة بقطع من الآلات قديمة لمّوها من أكوام المهملات، انظروا ماذا يجري في غزة لهؤلاء المخترعين، وكذلك في الضفة الغربية، فإذا كان أربعة من المهندسين، قد نالوا الجائزة الأولى في تخطّيهم لإعادة بناء مرفأ بيروت ونالوها منافسة مع كبرى الشركات في العالم، وهم طلاب من جامعة بيرزيت، فلا شك أن لدينا عقولاً قادرة على الاختراع وعلى استنباط الأمور وعلى تطوير سلاح هو المقاومة الشعبية، المقاومة الشعبية، نسمع عن محاولات لتهريب الأسلحة، أحبطتها إسرائيل مرة من نهر الأردن ومرة من شمال فلسطين، قد تكون هذه القصص مخترعة ومضلّلة من قبل العدو، ولكن تهريب السلاح شيء يجب أن يبقى في خاطر العدو كما هو في خاطرنا، فالعدو يتوقع تهريب السلاح ونحن نتمنى تهريب السلاح، حتى يصبح المجرم الصهيوني العنصري الذي يطلق الرصاص على الطفل واعياً من أن تلك الرصاصة قد ترتد إلى وجهه وقلبه وتقتله.


إن الارتفاع بمستوى المقاومة حتى نصل إلى خطوط ردع واضحة مع محاولات الاستيلاء على الأرض وتهجير الشعب، يجب أن يكون هدفاً من أهدافنا، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بالارتقاء بمستوى التدريب والمعرفة بالأولويات والأوليات في مقاومة الشعب للغزاة.


كل هذا الاندفاع في الدفاع الهجومي والهجوم الدفاعي، ينضوي تحت لافتة كبيرة وعلم كبير هما وحدة المقاومة في المنطقة، لذا فإن محور المقاومة في المنطقة الذي يتنامى في قوته وقدراته هو المسؤول الأول عن مواجهة هذه «الزرعة» الصهيونية السامة، والمسؤول الأول عن حماية القدس وأهلها، والمسؤول الأول عن التصدي للكيان العنصري الذي يستهدف نهب ثروات المنطقة تحت راية الولايات المتحدة من جزيرة سقطرى واليمن وباب المندب والبحر الأحمر إلى مياه فلسطين التي ينهب النفط والغاز منها.

* كاتب وسياسي فلسطيني

 

(عن صحيفة الأخبار اللبنانية)