منذ وقف إطلاق النار بين إسرائيل وقطاع غزّة، والدولة الصهيونية تواصل حملتها القمعية بشراسة مضاعفة. وهذا ليس في القدس وحسب، بل وبصورة خاصة ضد فلسطينيي أراضي 1948 الحاملين للجنسية الإسرائيلية. فقد جرى اعتقال المئات منهم في سعي واضح إلى إرهابهم وردعهم عن الانتفاض دفاعاً عن حقوقهم وتضامناً مع سكان أراضي 1967 مثلما فعلوا عندما بدأت المواجهات في القدس احتجاجاً على مساعي تهويدها واستفزازات قوات القمع الإسرائيلية في الحرم الشريف. وقد حصل ما خشينا أن يكون حصيلة قرار «حماس» بشنّ هجوم صاروخي على إسرائيل: فقد خطفت الحركة وهج الانتفاضة الشعبية التي كانت قد أخذت تشتعل بين البحر والنهر، وحققت غايتها السياسية بكلفة عظيمة بالأرواح وبالمباني في غزّة، بينما أخمدت الحرب الانتفاضة الشعبية ونزعت فتيلها.
فلو جرى، بدل إطلاق الصواريخ، تنظيم ما يشبه مسيرات العودة التي شهدها القطاع في سنتي 19/2018، لشكّل ذلك مشاركة في الانتفاضة الشعبية وتدعيماً لها بما هو أقوى من مفعول ذاك «النصر الإلهي» الذي ذكّرنا بقول المؤرخ الإغريقي فلوطرخس عن النصر الذي حققه بيروس الإبيري في العام 279 قبل الحقبة العامة في ما هو حالياً جنوب إيطاليا: «لو انتصرنا في معركة أخرى مماثلة ضد الرومان، لهلكنا بالكامل» (هذا علماً بأن بيروس حقق نصراً أكيداً ولو كان بالغ الثمن، أما «النصر الإلهي» الذي ادّعت «حماس» تحقيقه فموضوع جدال، وقد ناقشناه في مقال الأسبوع الماضي). والحال أن عدد القتلى الذين سقطوا في غزّة خلال سنة وتسعة شهور من «مسيرة العودة الكبرى» كان أقل من عدد قتلى «سيف القدس» التي لم تكمل أسبوعين، ناهيكم من الكلفة المادية التي لا تُقارن.
أما السؤال اليوم فهو كيف تعاود الانتفاضة الشعبية الالتهاب من حالة الجمر التي باتت فيها بعد حرب غزّة الأخيرة. وهذا يحيلنا إلى مكمن ضعف أساسي لدى الانتفاضة الفلسطينية اليوم على غرار انتفاضات العراق ولبنان في عام 2019، ألا وهو غياب قيادة تنسيقية تستطيع تعيين محطات النضال وأهدافه. فلا يوجد اليوم في الساحة الفلسطينية مرادفٌ لما عرفته انتفاضة 88/1987 تحت تسمية «القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة» وقد شكّلها آنذاك مناضلو حركة «فتح» وفصائل اليسار الفلسطيني في أراضي 1967، بما سبّب إحراجاً لقيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» في الخارج. أما اليوم، بعد مضي ما يزيد عن ثلاثة عقود على الانتفاضة الأولى وعن ربع قرن على دخول اتفاقيات أوسلو حيّز التنفيذ، فقد بات جلياً أن فصائل م. ت. ف. بوضعها الراهن لم تعد قادرة على قيادة أي حراك ثوري كان.
فلا بدّ من أن تنبثق قيادة جديدة يشكّلها الجيل الصاعد الذي نزل إلى الساحات والشوارع في الانتفاضة الجديدة. وبين قيادة الانتفاضة الأولى القائمة على فصائل المقاومة المسلحة وقيادة كالتي انبثقت من «المجتمع المدني» في الضفة الغربية في عام 2008 تحت تسمية «اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل» قد يكون الطريق الأمثل إلى تشكيل قيادة جديدة هو مبادرة قاعدية تشمل مناضلي ومناضلات الفصائل السياسية والمنظمات المدنية وغير المنتمين على أساس ديمقراطي انتخابي، وليس على أساس المحاصصة بين التنظيمات.
إلى ذلك ينضاف سؤال آخر: فإن ما سبق ذكره من هيئات قيادية تنسيقية كانت محصورة في نطاق الأراضي المحتلة سنة 1967. أما الآن وقد شملت انتفاضة أيار/ مايو الأخيرة أراضي 1948 بما فاق كماً ونوعاً ما شهدته محطات النضال الفلسطيني السابقة، كيف يكون التعبير عن وحدة النضال على جانبي «الخط الأخضر»؟ يحيلنا هذا السؤال إلى استراتيجية النضال التحرّري الفلسطيني الشاملة وهي تواجه داخل أراضي 1948، كما في المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، تحوّلاً في المجتمع والدولة الإسرائيليين بدأ مع ولادة الدولة الصهيونية وشهد نقلة نوعية مع وصول الليكود إلى الحكم عند بلوغ الدولة الثلاثين من العمر، ثم أنجِز خلال السنوات الأخيرة في ظلّ زعيم الليكود الحالي بنيامين نتنياهو. إنه تحوّل الدولة الصهيونية إلى الفاشية الجديدة (النيو فاشية) وهي الظاهرة التي تشهد صعودها شتّى بُقع العالم منذ سنوات، وقد كانت إسرائيل نتنياهو رائدة لها.
ويشكّل هذا التحوّل الفاشي في الدولة والمجتمع الإسرائيليين إحباطاً أكيداً لما كان يشكّل عنوان المعركة في أراضي 1948 منذ عشرات السنين، ألا وهو ما لخّصه شعار جعل إسرائيل «دولة لكلّ مواطنيها».
فعوضاً عن التقدّم على هذا الدرب، رأينا الدولة الصهيونية تخطو خطوة نوعية في الاتجاه المعاكس بتبنّيها «قانون الدولة القومية لليهود» في عام 2018. وحيث كان يبدو شعار الأمس قابلاً للتحقيق في أفق تاريخي منظور حيث يكفي كسب أقل من نصف اليهود الإسرائيليين لتشكيل أغلبية نيابية مع الناخبين الفلسطينيين، وهو ما بدا ممكناً عند صعود ظاهرة «ما بعد الصهيونية» بين اليهود في أواخر القرن الماضي، بات الشعار ذاته يبدو مستعصياً، إن لم يكن مستحيلاً، في الشروط المجتمعية السياسية الراهنة. فلا بدّ من مراجعة أشكال المعركة داخل أراضي 1948، التي قد تحتاج هي أيضاً قيادة تنسيقية جديدة تنبثق من المجتمع الفلسطيني في الداخل بفصائله السياسية والمدنية وبمشاركة غير المنتمين على قاعدة ديمقراطية انتخابية، لا قاعدة محاصصة.