لست متفائلاً بنتائج هذا الحراك السياسي والدبلوماسي الكثيف الذي يحيط بالقضية الفلسطينية ويدور حولها... لكن لا أحد لديه "ترف" الترفع عن الانخراط في هذه المساعي، على أن الحكمة، والمصلحة، تقتضيان توخي الحذر الشديد، مخافة أن تأتي نتائج هذا الحراك، بخلاف المرامي والتطلعات التي خرج الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، من أجلها.
مبدئياً، يدور هذا الحراك حول محورين: الأول؛ تثبيت وقف إطلاق النار على جبهة غزة... والثاني؛ نزع فتيل انفجار القطاع، من خلال برامج للمساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار... هذان الهدفان لا يكاد يختلف عليهما أحد من الفلسطينيين.
بيد أن المفارقة التي تصاحب هذا الحراك، وتتكشف عنه، أن أطرافه الدولية والإقليمية، تريد لوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار أن يتم بمعزل عن حماس، وربما في مواجهتها، مقابل تعويم السلطة وضخ مزيد من الدماء في عروقها الجافة... أي بمعنى آخر، أن الذين قدموا التضحيات، وخاضوا معارك المواجهة الصلبة مع الاحتلال، سيجري تهميشهم ومعاقبتهم، في حين سيكافأ الذين طالما تسببت لهم كلمة "مقاومة" و"انتفاضة" بحساسية بالغة.
المفارقة الثانية، أن الذين طالما رفضوا "نهج المفاوضات" و"اتفاقات أوسلو وما بعدها"، هم أنفسهم الذين خلقوا ظروفاً مواتية، من دون قصد طبعاً، لبعث روح جديدة في "المفاوضات الحياة"، في حين يستشعر الذين قضوا أسوأ أحد عشر يوماً في حياتهم، بأن رهاناتهم عادت للانتعاش مجدداً، وأن الفرج جاءهم من حيث لا يحتسبون.
يفسر ما يجري بكثافة هذه الأيام، ما سبق أن حذّر منه كثيرون: عملية إعادة إعمار غزة، لن تكون إنسانية بحتة، بل ستكون "طافحة" بالأهداف السياسية، وستتولاها أطراف عربية ودولية، مشهود لها بالعداء لحماس و"الإسلام السياسي" عموماً، إذ يبدو أن ثمة قرارا "كبيرا" قد اتخذ، بعدم تمكين حماس من قطف ثمار "نصر فلسطين"، وإسقاط هذه الثمار، بأي طريقة من الطرق، في جوف السلطة الفلسطينية.
ليس ثمة من مشكلة في ذلك، لو أن هذه السلطة، تمثل الجميع، وتعبر عن وحدة وطنية حقيقية، أو أنها تنوي فعل ذلك... ليس ثمة من مشكلة في ذلك، لو أن هذه السلطة صدعت لإرادة الشعب الفلسطيني بالتجديد و"الدمقرطة" و"التشبيب"، عبر صناديق الاقتراع... ليس ثمة من مشكلة في ذلك، لو أن هذه السلطة، جنحت لإدماج "قليل من المقاومة" في استراتيجية "المفاوضات والمزيد منها" التي انتهجتها طوال أزيد من ربع قرن... لكن المشكلة تصبح تحدياً كبيراً، في ضوء الحالة المزرية للنظام السياسي الفلسطيني: ترهلاً وشيخوخة وفساداً، انفراداً وتفرداً.
لبرهة من الوقت، بدا أن حماس أعلنت "نصرها"، وأنها ستسعى في تثمير نتائجه، من خلال إعادة صياغة النظام الفلسطيني وفقاً لمعطيات مرحلة ما بعد "سيف القدس" وفقاً لما ألمح إسماعيل هنية إليه... لكن الصورة اليوم، تبدو مغايرة، فالعالم الذي غفل عن فلسطين وتجاهلها وأسقطها من حساباته، يهرع اليوم إلى رام الله، مستنجداً بعواصم عربية وحليفة، من أجل منع حصول ذلك.
حماس أرادت للمساعدات أن تمر عبر قنواتها، هكذا قال خالد مشعل... والسلطة تريد أن تكون رام الله، طريق هذا المساعدات، إلى غزة.. يبدو أن مسألة المساعدات باتت عاملاً إضافياً في تعميق "فجوة الثقة" بين الجانبين، واستقرت في "قاموس الانقسام"... ولو أن الطرفين تحليا بحسن النوايا، واستلهما روح انتفاضة فلسطين وشعبها، لأمكن تشكيل "هيئة وطنية مستقلة" تعنى بملفي المساعدات وإعادة الإعمار، لكن العقلية الإقصائية، ما تزال سيدة الموقف، وأجواء "الانقضاض" على نصر فلسطين، الذي هو بقدر كبير، نصر حماس، تطغى على ما عداها، وسط ضجيج يصم الآذان، عن "حل الدولتين" الذي نعرف وتعرفون، أنه ليس سوى قنبلة دخانية، للتعمية على "الضم الواقعي" الزحف الاستيطاني.
(الدستور الأردنية)