ثلاثة شعارات شكلت عنوانا لإعادة تشكل الوعي السياسي الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي: 1- كل البنادق نحو العدو، 2- الوحدة الوطنية مع المحافظة على التعددية السياسية والتنظيمية، 3- القرار الوطني المستقل.
ثلاثة شعارات بسيطة شكلت كيمياء استعادة روح الصمود والمقاومة، التي تشظت بعد 1948. فاستعادت فلسطين وحدتها الشعبية، وتحولت المِزَق الاجتماعية الموزعة بين البلدان المجاورة والمناطق المقفلة إلى شعب يمسك قضيته بيديه.
منذ أوسلو وهزيمة الانتفاضة الثانية، بدأ مسار انحداري مخيف، بحيث اقتربت فلسطين من نقطة الصفر التي صنعتها حرب النكبة. وكاد الاسم الفلسطيني يندثر بعد الرضوخ للرباعية الدولية، والخضوع للمنطق النيوليبرالي بفقاعاته الكاذبة، والانقسام الفاحش الذي شكل أرضية سمحت للقوى الإقليمية بتحويل فلسطين إلى إحدى ساحات صراعاتها.
لم يكن في استطاعة أحد أن يتخيل أن والد الشهيد باسل الأعرج يمكن أن يُضرب من قبل رجال الأمن الفلسطينيين لأنه قاد مظاهرة تطالب بحق دم ابنه الشهيد.
لقد تجاوز الانحطاط كل التوقعات المتشائمة، قمع ومصادرة للحريات من جهة، ومنع للكتب وفرض تقاليد جديدة لا علاقة لها بالحياة الفلسطينية من جهة أخرى. بحيث بدت فلسطين وكأنها أضاعت اسمها ووجوهها وقضيتها.
لكن فات من قام بمهمة ترويض الفلسطينيات والفلسطينيين، أنه يسعى إلى تكبيل شعب مهدد بالإبادة ومحاصر بالتطهير العرقي وعليه أن يعيش في ظل نظام تمييز عنصري لا يرحم.
فات هؤلاء من إسرائيليين وأمريكيين ومستبدين عرب ومتسلطين فلسطينيين، أن شعباً يقاوم من أجل البقاء ويدافع عن حقه في الوجود وعن ما تبقى له من كرامة وبيوت وأرض، لا يمكن ترويضه.
ونسي الجميع أو تناسوا، أنه مهما خبا أو انطفأ نضال الفلسطينيات والفلسطينيين في دفاعهم عن بقائهم، فإنهم ينهضون من ركام نكباتهم ويفتحون آفاقاً جديدة.
النكبة مستمرة، لكن المقاومة مستمرة أيضاً.
وفي أيار/ مايو شهر ذكرى النكبة الأولى، انتفضت فلسطين انطلاقاً من حي صغير في القدس اسمه حي الشيخ جرّاح.
لم يفهم العنصريون الإسرائيليون لماذا كل هذا الضجيج حول بضعة بيوت، سبق للإسرائيليين أن صادروا واستولوا على ألوف البيوت الفلسطينية التي تفوقها أهمية. لم يفهموا لأنهم رفضوا دائماً أن يروا في الفلسطيني إنساناً، فتعاملوا معه كفائض يمكن التلاعب به.
في أيار هبت فلسطين مستخدمة كل الأسلحة المتوافرة، من الحناجر والقبضات المرفوعة والحجارة والدواليب المشتعلة إلى الصواريخ.
لم يفهم أحد كيف توحدت فلسطين من جديد، وأمحت الحدود الجغرافية بين القدس والضفة وغزة والجليل والمثلث والنقب والشتات.
قرأوا صواريخ غزة بصفتها صراعاً على السلطة.
لا أعرف ما رأي السلطتين في هذه القراءة العمياء، لكن ما أعرفه هو أن الشعب بكل فئاته قرأ في كتاب واحد هو كتاب نكباته، وفهم أن المقاومة وحدها توحده، تماماً كما حصل في معركة الكرامة 1968. فالوحدة تتم في أرض المعركة، ويتم إعلانها اليوم بالنضال والدماء التي سالت في غزة والبيرة ونابلس والخليل واللد ويافا. هذا هو درس انتفاضة القدس.
قيادة موحدة تضم جميع المناضلين، قيادة تطيح لغة زمن الردة والتنسيق الأمني واتفاق أوسلو الذي أسقطته إسرائيل والخضوع للإملاءات الأمريكية. قيادة تضم فتح ويتصدرها الأسير المناضل مروان البرغوثي وحماس والجهاد والجبهة الشعبية، وكل من يريد أن يقاوم، من فصائل وحركات شبابية، وتنسق مع فلسطينيي داخل الداخل الذين هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني.
لن نأبه للاصقة الإرهاب، فلتضبّ أمريكا الإرهابيين والعنصريين والمستوطنين الإسرائيليين قبل أن تعطينا الدروس. قيادة موحدة تنبثق عنها حكومة وحدة وطنية تعد لانتخابات ديمقراطية تشريعية ورئاسية في الأرض المحتلة، ويتم في السياق نفسه إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني على أسس ديموقراطية وفي إطار فكرة المقاومة، ويقوم هذا المجلس بانتخاب قيادة جديدة للشعب الفلسطيني.
كل كلام عن مفاوضات مع أي طرف دولي أو عربي أو إسرائيلي قبل تشكيل هذه القيادة الموحدة هو تفريط في الانتفاضة يلامس الخيانة.
هذا هو الطريق، وعلى جميع القيادات الفلسطينية أن تعي أن عليها أن تلحق الشعب بعدما فشلت في قيادته، لأن هذا هو خيارها الوحيد، وإلا فإنها سوف تسقط وتتلاشى في الشوارع. ما جرى في الانتفاضة ومن ضمنها حرب غزة، كان انتصاراً معنوياً وأخلاقياً كبيراً، وصموداً عظيماً.
انتصر الفلسطينيون لأن إرادتهم لم تنكسر، ومظاهراتهم استمرت، وصواريخهم لم تتوقف. لكن من أجل تحويل لحظة الانتفاضة إلى بداية، علينا أن نعود إلى تلك الشعارات البسيطة الثلاثة:
- كل البنادق والحجارة نحو العدو المحتل.
- الوحدة الوطنية التعددية هي الأداة السياسية.
- القرار الوطني المستقل، أي أن تعود فلسطين محور القرار السياسي، وتتوقف سياسات الالتحاق بالمحاور.
هكذا تستعيد فلسطين اسمها، ويجد العرب مكانهم في نضالها ويلتف حولها أحرار العالم.
لن نغفر لمن سيحاول أن يعيدنا إلى لعبة الانقسام، مهما علا شأنه السياسي أو المعنوي. فالذي يناضل ويقاتل ويصمد هو من يمتلك حق إعادة صوغ أحرف الاسم الفلسطيني الذي احتل أرواحنا.
(عن القدس العربي اللندنية)