بحلول ذكرى مجازر 8 ماي 1945، يستحضر الجزائريون تضحيات الأجداد
والآباء في سبيل نيل الحرية المفدّاة واسترجاع السيادة الوطنية، كما تطفو مجددا على
ذاكرة الجرح التاريخي النازف تلك الجرائم الوحشية المروِّعة التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية
والعدوّ التقليدي لبلادنا حتّى اليوم.
إنّ تلك الأحداث الشنيعة، وسواها من وقائع عدوان سافر على
الشعب الجزائري طيلة قرن وثلُث قرن من استيطان تدميري ماديّا ومعنويّا، لم تعرف البشرية
مثيلَه خلال القرنين 19 و20، ستبقى وصمة عار تلاحق فرنسا الكاذبة في إدِّعائها الساقط
لحمل راية التمدين والتنوير بثلاثيّة “الحرية والأخوَّة والمساواة”، بينما هي المسؤول
الأول عن مآسي إفريقيا وجزء من الوطن العربي، ولا تزال آثارُها التخريبية تُلقي بظِلالها
المسمومة على الإنسان والحيوان والبيئة، كما تنفجر قنابلها الموقوتة تباعًا في كل مكان،
لتُودي بحياة البشر وتفكّك الأوطان بصراع الهُويات المصطنع لاستدامة النفوذ الاستعماري
سياسيّا وثقافيّا واقتصاديّا.
إنّ كل المداهمات والتعذيب والإعدامات العشوائية والاختفاءات
القسرية والإبادات الجماعية المرتكَبة في حق الجزائريين، ناهيك عن حرق الأرض ونهبها،
قد تمت تنفيذا لخطة محددة ضمن الإرهاب الممنهج للدولة الفرنسية، ما يجعل كافة العناصر
المكوِّنة للجريمة ضد الإنسانية متوفرة، وفق تعبير المؤرخ والخبير السياسي الفرنسي،
أوليفيي لوكور غراندميزون الذي طالب رئيسَه إيمانويل ماكرون بالاعتراف، إذا “كان يزعم
استعداده للعمل على مصالحة الذاكرة، كي يجعل أفعالَه مطابِقة لأقواله”.
لذلك، لا بديل في كل الظروف عن تسوية شاملة ونهائية لكل ملفات
الذاكرة بأركانها وأبعادها المعروفة، وبهذا الصدد، نثمِّن المطلب الصريح والقويّ الذي
وردَ لأول مرةّ بصفة رسمية ومبدئية على لسان الناطق باسم الحكومة في أن الجزائر تتمسَّك
باعتراف فرنسا بجرائمها في حق الشعب الجزائري وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة عنها،
وهو موقفٌ غير مسبوق من مسؤول حكومي، نتمنى أن يكون معبِّرا عن توجه جديد وجادّ للسلطات
العليا في البلاد.
وما يزيد من التفاؤل بهذا الشأن هو تأكيد رئيس الجمهورية،
في رسالته أمس، أن “جودة العلاقات مع جمهورية فرنسا لن تتأتّى دون مراعاة التاريخ ومعالجة
ملفات الذاكرة، والتي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات”، مشدّدا
على أنّ “المستقبل الواعد في توطيد وتثمين أواصر العلاقة بين الأمم يجب أن يكون أساسه
صلبا خاليا من أي شوائب”.
إنّ تشبُّث الجزائر بتسوية منصِفة للذاكرة المتعلقة بالفترة
الاستعمارية يفرض على الطرف الآخر الانصياع لمعالجة المسألة في إطار حوار دولة مع دولة،
بعيدا عن الأشخاص والجماعات والدوائر الأخرى، مما يتطلب قراءة موضوعية وغير ظرفية للتاريخ،
كما قال رئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل.
بالمقابل، فإنّ ضغط اللوبيات المُعادية للجزائر داخل فرنسا
وخارجها من أجل عرقلة مسار ملف الذاكرة، يفرض على الأمة الجزائرية الإجماع والاجتماع
بكاملها، من مواطنين وجهات رسمية وسياسيين ومثقفين ومؤرخين وخبراء وتنظيمات مدنيّة
وإعلام عمومي وخاصّ، لإسناد الإرادة السياسية المتمحورة حول صيانة كيان الأمة، مثلمَا
دعا إليه الوزير عمار بلحيمر.
لقد سبق لرئيس الجمهورية التأكيد على أنّ “التاريخ الوطني
سيظل في طليعة انشغالات الجزائر الجديدة وشبابها، ولن نفرِّط فيه أبدا في علاقاتنا
الخارجية”، وهذا ما ينبغي الالتفافُ حوله الآن والوقوفُ إلى جانبه مهما كانت الخلافات
الأخرى، خاصّة أنّ الإرادة العليا المعلَنة والعملية تتقدّم ميدانيّا في تحقيق مكاسب
ملموسة تدريجيّا على صعيد الذاكرة.
إنّ كل التحولات الداخلية والإقليمية والدولية تشتغل لصالح
الجزائر في التحرر من الهيمنة الفرنسية لإرغام باريس على تصحيح أخطائها وإعادة التأسيس
لعلاقات نديّة متوازنة بين البلدين، تُراعي المصالح المشترَكة بعيدا عن منطق الوصاية
والنفوذ، لأنّ العالم اليوم لم يعُد محكومًا بالأقطاب التقليدية، في ظل بروز قوة صاعدة
على المسرح الدولي، مثل الصين واليابان والهند وماليزيا وتركيا والبرازيل والنمور الآسيوية
وغيرها، ناهيك عن عودة الدب الروسي بقوّة، ما فتح الآفاق الاقتصادية والعسكريّة والدبلوماسية
أمام دول كانت إلى وقت قريب مستضعفة، برغم توفرها على موارد هائلة للتنمية والازدهار.
لذا، فإنّ التغيرات الكونيّة تمنح الجزائريين اليوم الفرصة
التاريخية لاستكمال الاستقلال الوطني الذي أنجزه الآباءُ بثمن باهظ، بتحقيق الحرية
اللغوية والثقافية والاقتصادية والسياسية وطيّ صفحة الذاكرة المفتوحة على جروح غائرة.
(الشروق الجزائرية)