الواقعة المأساوية الجديدة لمقتل الشاب نائل، من أصول جزائرية، وما رافقها من شحن عنصري سياسي وإعلامي وشعبي في فرنسا، يفتح مرة أخرى ملف صعود
اليمين المتطرف، بما يشكله من خطر محدق بأوروبا والغرب عمومًا، لأنّ الجريمة لم تكن قطّ، وفق كل المؤشرات، حادثة معزولة، بل تكاد تكون نهجا مؤسّساتيا أمنيًّا، وقد اهتز العالم قبلها لما تعرّض له جورج فلويد على يد الشرطة الأمريكية.
من النتائج اللافتة التي انتهى إليها الخبير الفرنسي، ديدي فاسين، الباحث في العلوم الاجتماعية بـ”كوليج دو فرانس”، في تحليله لطريقة تعاطى شرطة بلاده مع شباب الضواحي، أنّ ثُلثي أصوات الجهاز الأمني كانت تذهب إلى حزب “الجبهة الوطنية”، منذ زمن ماري لوبان إلى عهد ابنته، مارين، التي زاحمت إيمانويل ماكرون في الدور الثاني من رئاسيات 2017.
طبعا مثل هذه الخلاصة ليست أمرا مفاجئا في ظل الصعود المتنامي والسريع للأحزاب اليمينية المتطرّفة، ذات الجذور الفاشية والنازية، عبر أرجاء القارة الأوروبية بشكل غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة مع انحسار التيار اليساري، عقب تفكيك الإتحاد السوفياتي، وفق دراسات المختصين.
لا شكّ أنّ كثيرا من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية التي هزت الغرب خلال العقود الأخيرة كانت وراء إحياء الفكر العنصري الذي يتغذى منه اليمين المتطرف، لكن النخب هناك تتحمّل المسؤولية الأخلاقية عن الخطابات الشعبويّة التي تدفع نحو سلوكيات الكراهية والتمييز ضد الآخر من المسلمين والعرب والعجم والأفارقة، بل والأوروبيين أنفسهم، حتى لو كانوا مواطنين يعيشون فوق أراضيهم بصفة قانونية ويحملون جنسية بلدانهم الحاضنة.
إنّ تغوّل الفكر اليميني المتطرّف وصعودَه الانتخابي والسياسي والإعلامي والمؤسساتي، لا يشكل خطرا على المهاجرين وذوي الأصول غير الغربية وحدهم كما يتوهم البعض، بل هو تهديدٌ وجودي للقارّة العجوز ودول الغرب عموما، إذ يضعها أمام تحدّيات الانفجار الداخلي واهتزاز النسيج الاجتماعي والاستقرار العامّ، لأنّ هؤلاء ليسوا كمّا مهملا ولا نوعًا هامشّيا هناك، بل هم كتلة بشرية وازنة بالملايين في كل بلد ونخبة مهنية ثقيلة، لها أدوارها المتقدمة في الاقتصاد والتنمية، دفعتهم ظروف بلدانهم إلى الهجرة الاضطراريّة، لتجد
أوروبا نفسها المستفيد الأول من عقولهم وسواعدهم.
وفي حال استمرار الممارسات العنصرية ضد هؤلاء، فإنّ أوروبا قد تتخلّص من فائض مهاجرين ثانوي مستقبلا، لكنها ستخسره في سدّ شغور مناصب عمل مهمة لقطاع الخدمات والاقتصاد الأوروبي، فضلا عن تضييعها لإطارات قد تغادر مكرهة نحو الصين واليابان وماليزيا وتركيا وغيرها من حواضر التكنولوجيا العالميّة.
أمّا الخطر الأكبر، فهو أنّ الفكر اليميني المتطرِّف سينسف الإتحاد الأوروبي لاحقًا من الأساس، تحت ذريعة رفض التخلي عن السيادة الوطنية للدول، مثل ما حصل مع استفتاء الدستور الأوروبي قبل سنوات، فضلا على أنه مناقضٌ فلسفيّا وعمليّا لقيم الديمقراطية التي تتأسس عليها الحداثة الغربية والمجتمعات الرأسمالية.
لذلك لم يتوقف مفكرون غربيون خلال السنوات الأخيرة عن التحذير من عواقب التقدم السياسي لليمين المتطرف، لأّن نبذ الآخر وترويج خطاب الكراهية وبروز السلوكيّات العنصريّة، على أسس دينية وعرقية ولغوية وثقافية هوياتية عمومًا، يتنافى تماما مع قيم التسامح والتعايش وتقبُّــل المختلِف والمواطنة التي تمثل ركائز النظام الليبرالي الغربي، ما يجعل الانتخابات في النهاية مجرد طقوس شكلية، لا تعبِّر عن روح الديمقراطية ولا تمثيل الإرادة الشعبيّة العامّة.
إنه يتعيّن، بصفة ضرورية، على أوروبا الرسمية والنخبوية مواجهة اليمين المتطرِّف بكل الوسائل القانونيّة والتوعوية، لأنه يشكِّل قنبلة موقوتة ضد تماسكها السياسي واستقرارها الاجتماعي، ستتعدّى شظاياها القاتلة ملاحقة المهاجرين إلى ضرب القارة في عمقها المجتمعي التاريخي بصناعة ما يُسمّى “الهويات النقيّة” في بلدان مختلطة الأعراق والأصول والديانات منذ قرون، بل حين نتكلم عن الإسلام فهو وجود تاريخي في شرقها (العثماني) وغربها الجنوبي (الأندلس) قبل ظهور الدول القومية الأوربية المعاصرة.
إنّ المواطنين الأوروبيين من أصول أجنبية يشكلون اليوم مُكوِّنا رئيسًا وراسيًّا في البلاد الأوروبية لأسباب كثيرة، والإمعان في استعدائهم، تحت أي ذريعة أو وسيلة، يضع القارة برمتها أمام كفّ عفريت، ولا خيار أمام سلطاتها سوى كبح التطرف العنصري في حقهم والكفّ عن سياسات الإدماج الإلغائية وتركهم يعيشون حياتهم الدينية والثقافية بحريّة في إطار قوانين مرنة وغير متحيزة.
(الشروق الجزائرية)