«عزمت إلى ترك كل أحبائي، رجالاً ونساءً، وهجرت بيتي كما تهجر الطيور أعشاشها».
ابن بطوطة، في القرن الرابع عشر..
في اليوم الذي انطلق فيه ابن بطوطة إلى الحج في مكة المكرمة، في صباح أحد أيام يونيو (حزيران) عام 1325، لم يكن يعلم أن هذه الرحلة ستتحوّل إلى أطول وأعظم رحلة في تاريخ السفر.
ولم يكن يتعدّى عمره الواحد والعشرين عاماً حين ركب حماره وترك بمفرده مسقط رأسه، مدينة طنجة، الواقعة في شمال غربي المغرب.
وحين عاد إليها بعد أربعة وعشرين عاماً واجتاز بواباتها، كان قد أصبح مغامراً غنيّاً ومشهوراً، يرافقه حشدٌ من الخدم والأتباع.
وكان قد أتمم رحلة من 120,000 كلم من البرّ، أي بقدر المسافة التي تمتدّ من الأندلس إلى منطقة مالابار الهندية، وتعرّف إلى أكثر من 40 رئيس دولة، وعُيّن سفيراً وقاضياً، واتَّخذ أكثر من امرأة، وأنجب الأطفال، ونجا من الموت مراراً وتكراراً، وأتم الحج إلى مكّة أكثر من مرة.
الانطلاق في رحلة الحج
ولد ابن بطوطة في عام 1304 في عائلة أمازيغيّة محترمة ومعروفة بثقافتها وإلمامها في الفقه. وبعد أن تلقى تعليماً جيداً في مدينته، قرّر أن ينطلق إلى الحجّ، وأن يوسّع معرفته ملتقياً مختلف العلماء الصوفيين في منطقة الشرق الأوسط.
فاجتاز ابن بطوطة شمال أفريقيا، مروراً بتونس والإسكندريّة، ثم وصل إلى القاهرة، عازماً أن يحاول قدر المستطاع ألا يمر بالطريق نفسها أكثر من مرّة.
وفي طريقه إلى مكة، اجتاز القدس وحلب ودمشق (حيث شهد على تفشي مرض الطاعون المعروف بالموت الأسود)، واستقبله سلطان مصر الذي قدّم له الهدايا والذهب. وصل إلى مكّة في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1326، وتأثر بجمع الحجّاج الغفير، الآتين من مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ.
وبالنسبة لابن بطوطة، كان هذا الحجّ نقطة فاصلة في مسيرته. فهو كان قد انطلق إليه مثل أي حاجٍ آخر، ولكن، حين وقعت عيناه على الجموع المتوافدة إلى المدينة المباركة، أدرك فجأة وسع نطاق العالم المعروف، وقرّر أنه يريد أن يراه بنفسه.
ومن مكة سافر ابن بطوطة عبر الصحراء العربية إلى بغداد، وتابع مساره في جنوب بلاد فارس قبل أن يعود إلى مكة.
ثم أبحر طوال ساحل أفريقيا الشرقي وصولاً إلى مومباسا التي تقع اليوم في كينيا، قبل أن يتجه شمالاً من جديد نحو الشرق الأوسط، صعوداً عبر الأناضول إلى البحر الأسود.
وأكمل ابن بطوطة مساره شمالاً إلى شبه جزيرة القرم وشمال القوقاز، ولكن البرد الشديد حال دون استمرار تقدمه في المنطقة، فسافر نحو القسطنطينية حيث التقى الإمبراطور البيزنطي أندرونيكوس الثالث، الذي أهداه حصاناً، صهوة ومظلة.
وترك ابن بطوطة البوسفور مغامراً نحو بخارى وسمرقند ثم شرقاً إلى أفغانستان، وصولاً إلى الهند.
وفي حينها، كان يصل ابن بطوطة ومعه حشدٌ من الأتباع والمرافقين وحرمٌ من الزوجات. وعلّق فيما بعد على غرابة الثقافة التي وجدها، فذكر مشاهدته ممارسي يوغا يقومون بالسحر، وعبّر عن صدمته لشهده على نساء يقمن بتقليد «سوتي» الهنديّ، فيرمين أنفسهنَّ على محرقات جثث أزواجهنَّ المتوفين.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية